آخر الأخبار

ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب “الفيل”؟!

الجميل الفاضل يكتب: 

إن “الفيل” الذي استعرت الآية الكريمة للفت النظر إليه، ليس هو بالضرورة فيل “أبرهة” الحبشي، كما أنه ليس بالطبع فيل الراحل “الصادق المهدي” الذي تصور أنه قد صاده عوضا عن أرنب صغير ذهب لمطاردته ببراري جيبوتي.

الفيل الذي أعنيه هنا، هو فيل ضخم للغاية، تركه الإنجليز المغرمون بضرب الأمثال للناس، في غرفة الوطن، التي كانت حينها غير مكتملة النمو والأركان، عند جلاء الاستعمار عن أرضها في العام 1956 هو فيل موروث ظل يترجم في كل مراحل وجوده مغزي مثل إنجليزي شهير يقول:  “Elephant in the room”

إن “في الغرفة فيل”، فيل رغم خطورة وجوده وتأثيره الذي لا يخفي علي الأوضاع بهذه الغرفة، وعلى استقرارها وبقائها وتماسكها، إلا أن الجميع هنا ظل يغض الطرف عن وجوده وسلوكه وتصرفاته، إذ لا أحد كان يجرؤ على التحدث عن ما يمكن أن يحدثه وجود فيل كهذا بلا قيود قانونية ودستورية كافية لكبح جماحه، ولما يمكن أن يسببه غياب مثل تلك القيود من مشكلات داخل غرفة مختلة التوازن أصلا، كافة عناصرها ومكوناتها الأخرى لا حول لها ولا قوة.

إنه “فيل” اكتفي قادة الحكم الوطني الأول بسودنة قيادته، بمظنة أن مجرد احلال الجنرال السوداني “أحمد محمد” ومن معه، مكان الجنرال الإنجليزي “سكونز” ومن تبعه في القيادة يكفي لمعالجة أوضاع هذا الجيش في ظل تركيبة بلد خارج لتوه من حالة استعمار، بلد عنصر قوته الوحيد هو قوة النيران، إذ بطبيعة حاله كبلد في المهد لم تكتمل عناصر القوة الأخرى فيه، فاختل توازنه الداخلي والضروري لبناء دولة مستقرة.

فقد أثبت التاريخ بما لا يدع مجالا للشك، أن ترك هذا الفيل غفلا، دون إعادة صياغته بما يناسب حجم هذه الغرفة، ونوع مواد بنائها، لا زال يمثل هو كذلك خطرا حقيقيا يمكن أن يمتد إلى المستقبل أيضا.

فقد قضي هذا الفيل الشره علي الأخضر واليابس في غضون (52) عاما، اغتصبها من عمر استقلال البلاد الذي لا يتجاوز في مجمله (67) عاما، تناوب خلال (15) سنة منها، خمسة مدنيين فقط الحكم، بمتوسط ثلاثة سنوات لكل منهم، ذلك حتي دون خصم سنة الجنرال “سوار الذهب” كشريك في الحكم، او سنوات الجنرال المراوغ البرهان الأربع التي لا يعرف إلى الآن على الأقل، هل هي سنوات شراكة، أم سنوات انفراد احتيالي ملتبس، مارسه بمهارة يحسد عليها.

بل أن مشكلة هذا الفيل الذي امتطاه “برهان” بعد انقلابه الأخير، فلم يحسن ركوبه، ولم يسقط إلى اليوم عنه.. قد صارت مشكلتان:

أُولاهما المشكلة التقليدية، مشكلة وجود أي فيل من هذا النوع والشاكلة في غرفة توازنها مضطرب، وثانيها ما تؤكده كثير من الشواهد التي تقول أن هذا الفيل قد بات بالفعل فيلا مستأنسا اخوانيا، تم تقليم أظافره، وترويضه، وتدريبه على براعة الاداء لصالح الحركة الإسلامية بسيرك السياسة.

هو فيل فشل بعض القادة والمؤثرين في مرحلة ما بعد الثورة في رؤيته كفيل كما ينبغي، بما يذكرني بقصة لحكيم هندي تقول: إن حكيما هنديا كلف بمهمة تعليم أمير شاب متهور يدعي العلم بكل شيء.. فاراد المعلم أن يبدأ بتلقين تلميذه الأمير درسا يعيد له قدرة تقدير الأمور كما ينبغي بوزنها وحجمها الطبيعي، لا كما يتوهم هو.

فطلب الحكيم إحضار فيل وجماعة من العميان، دون أن يخبرهم  بأن ما أمامهم فيل حقيقي، ثم طلب معلم الأمير في الخطوة التالية من الرجال العميان أن يتحسس ويصف كل منهم ما لمس بيديه.. فمن لمس من الرجال قدم الفيل قال إنها جذع شجرة، ومن لمس خرطوم الفيل قال إنها مضخة مياه، وهكذا دواليك كل من لمس جزء من الفيل وصفه بما يوافق من مخزون ذاكرته.

لكن أعمى عجوزا واحدا امتنع عن مد يده للمس أي جزء من الفيل، واكتفى بالإنصات لوصف نظرائه لما مسته أيديهم، بغرض بناء صورة ذهنية متكاملة اعتمادا على ما سمع من الآخرين.

وفي النهاية خلص الأعمى العجوز إلى أن ما بالغرفة فيل.

ولعل في قصة أصحاب فيل أبرهة الذين صار كيدهم في تضليل، عبرة لمن أراد أن يعتبر.

وبالنتيجة ايضا فإن التاريخ السوداني الحديث يبرز أن كل من توسل من المدنيين بفيل الغرفة صار مصيره أقرب إلى زوال، زوال عن الحكم والسلطة، أو زوال عن الحياة والوجود.

فقد ذهب الجنرال الأقل عدوانية “عبود” ببعض من أتوا به، أو باركوا انقلابه الي جبل الرجاف في جنوب السودان سجناء.

وبصورة أكثر دموية ومأساوية ذهب الجنرال “جعفر نميري” بمن قدموا له السلطة في طبق من ذهب إلى المشانق و”دروة” الرماية والإعدام.

وبمثل ذلك قد فعل الجنرال “عمر البشير” بشيخ حركته حسن الترابي الذي رماه وراء أسوار السجون لأكثر من سبع مرات.

المهم فإن سنة “فيل الغرفة” ستظل ماضية في حلفائه الي يومنا هذا، وإن غدا لناظره قريب.

 

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.