تقرير ــ مصطفى سعيد
“تعرَّضتُ للاعتقال في العام 2013 خلال هبَّة سبتمبر الشعبية، وكنت حينها صبيا لم يتجاوز عمري 17عاما”، بهذه الجملة ابتدر (خالد إمام) حديثة. وأردف: لم يكن لديَّ الوعي السياسي آنذاك؛ ولكن تراكم الأحداث جعلني أستوعب الواقع السياسي المُعقَّد الذي نعيشه في السودان، فأحسست بأن هناك مسؤولية تقع على عاتقي ويجب عليّ العمل على تغيير هذا الواقع.
عند اندلاع الثورة السودانية عام 2018ضد حكومة عمر البشير كان خالد في مقدمة صفوف الشباب، مشاركا في كل فعاليات الحراك المناهض لنظام الإنقاذ، وساعيا لتحقيق مطالبه.
يقول عن ثورة ديسمبر: “ثورتنا داعية للاستقرار السياسي في السودان، ومطالبها تحقيق الحرية والسلام العدالة، وإرساء دعائم حكم القانون وقيام دولة المواطنة المرتكزة على الحقوق والواجبات والمساواة، وهي شعارات نأمل أن تنبني عليها الدولة التي نطمح في إقامتها.”
اندلعت الثورة ديسمبر في المدن السودانية ضد حكومة الإنقاذ الذي كان يترأسها عمر البشير لثلاثين عاما.

دولة فتيَّة
بحسب أحدث التقديرات الصادرة عن الأمم المتحدة في عام 2020، فإن عدد سكان جمهورية السودان يبلغ نحو (43.977.318) نسمة، وتقول التقارير إن نسبة المواطنين دون سن الخامسة والعشرين تمثل 61.5% من جملة السكان، ونسبة متوسط العمر في السودان هو 19عاما، لذلك يُصنَّف السودان بأنه دولة فتيَّة، وهذا يعني أن الشباب يُمكنهم أن يلعبوا أدواراً رئيسيةً في إحداث التغييرات الإيجابية مستندين على طاقاتهم المتجدِّدة وأفكارهم الخلَّاقة.
تعد تجربة لجان المقاومة خلال ثورة ديسمبر تجربة جديرة بالتمعُّن والتفحص، وذلك لمساهماتها الكبيرة باتجاه إنجاح الثورة والتحول المدني الديمقراطي.
وفقا لحديث القيادات الشابة بلجان المقاومة، فإن عضوية هذه اللجان ليست حكرا على الشباب فقط، بل يمكن أن تضم كل الفئات العمرية. ويرى خبراء اجتماعيون أن عددا كبيرا من الشباب عموما يُفضِّلون أن يكونوا فاعلين دون أن يتقيدوا بالانخراط في أجسام تنظيمية خاصة السياسية، لذلك ترى لجان المقاومة خلال الثورة أحد العبقريات التنظيمية التي يقودها الشباب ليصيروا من خلالها متخذي قرار ومؤثرين سياسيا، ومساهمين في التحول المدني الديمقراطي.

وقفة مع التأسيس
يُعرِّف عضو لجان المقاومة محمد أنور لجان المقاومة بأنها أجسام مستقلَّة نشأت في مطلع ثورة ديسمبر أواخر العام 2018وبداية 2019، وهناك أجسام قاعدية تكونت منذ (هبَّة سبتمبر)، وهي انتفاضة شعبية ضد سلطة الإنقاذ في 2013 كانت أهم مسبباتها رفع الدعم عن المحروقات. قامت بعض اللجان في ذلك الوقت بغرض تنظيم العمل وترتيب الحراك في مناطق عرفت بمعارضتها للسلطة.
واعتمدت لجان المقاومة في تأسيسها على دوائر الثقة بين الشباب في الأحياء باعتبار أنهم أكبر فئة عمرية متواجدة داخل اللجان. الكثيرون يرون أن عنصر القوة الذي ساهم في استمرارية وتقوية لجان المقاومة هو شكل التنظيم الأفقي، بحيث ينخرط كل الأعضاء في مكاتب تنظيمية بمستوى متساوٍ لا يضم تراتبية رأسية.
أما في شأن هياكلها التنظيمية يُعلق محمد أنور قائلا: اعتمدت اللجان في هيكلتها وتنظيمها على ذوي الخبرة الذين اكتسبوا خبرات نضال تراكمية في مقاومة نظام الإنقاذ. ويضيف: في بدايات التأسيس كان مستوى قمع السلطة للثورة عالٍ جداً، لذلك كنا نمارس أنشطتنا واجتماعاتنا التنظيمية سرا.

اكتسبت لجان المقاومة رصيداً إضافياً بعد نجاحها في تغذية الحراك المناهض لسلطة الإنقاذ عبر حشدها للمواكب المركزية وتظاهرات الأحياء، حتى الفعاليات الثورية التي كانت يُصدرها تجمع المهنيين السودانيين في شكل جداول، واستمر الأمر إلى حين الإطاحة بالنظام في 11أبريل 2019.
خلال فترة اعتصام القيادة العامة والاعتصامات التي قامت بالتوازي معه في 16ولاية من ولايات السودان؛ استمرت النقاشات بين اللجان من أجل زيادة التنظيم، وكانت ثمرة هذه النقاشات ميلاد تنسيقيات لجان المقاومة، وتُعدُّ التنسيقيات بمثابة حواضن للِّجان القاعدية؛ أنشئت بغرض تجميع اللجان وربطها بلجان المدن الأخرى.
تتكون التنسيقيات من لجان أحياء قاعدية، هذه اللجان تجتمع في أجسام تنسيق وسطى، ولديها ممثلون في جسم التنسيقية الأكبر الذي يضم المدينة، وفي خطوة أكثر تقدما تم إنشاء مكاتب العمل المشتركة للولايات.

عوامل قوة وضعف
هناك الكثير من العوامل التي تسببت في إضعاف لجان المقاومة، ويمكن تقسيمها إلى عوامل ذاتية متعلقة بطبيعة تكوين اللجان وتعقيداتها التنظيمية، وأخرى مُسبَّبة سعت إلى صناعتها قوى الردة، مثل تغويصها لكوادر محسوبة على النظام البائد داخل اللجان، وانتهاجها لسياسة (فرِّق تسُد) بهدف زرع الخلافات بين المقاومين، كذلك الاستقطاب السياسي الحاد تسبب في إضعاف اللجان وهزَّ استقلاليتها.
أما عن العوامل الذاتية يقول محمد أنور إن أغلبية اللجان تعاني في الوقت الحالي من الضعف التنظيمي، هذا الضعف جعل اتخاذ القرارات فوقياً محصوراً في أجسام التنسيقيات ومعزولا عن القواعد، مما تسبب في نشوء خلافات بين اللجان القاعدية وتنسيقياتها. وينتقد أيضاً خمول اللجان وعدم تجديدها لأساليب مقاومتها قائلا: بعد الانقلاب انتقلت لجان المقاومة من مربع رد الفعل لتكون صانع الفعل، فأضحى صوتها مسموعا وفعلها مؤثرا، لذلك عليها ابتكار وسائل نضال سلمية جديدة تتماشى مع طبيعة كل مرحلة.
شباب بين ثورتين
عضوة لجان مقاومة كرري الأستاذة منى محمد الطاهر وهي خمسينية، أتاحت لها الظروف بأن تُشارك في ثورتين شعبيتين شهدهما السودان، فعندما كانت شابة شاركت في انتفاضة أبريل 1985ضد حكومة جعفر نميري، حيث كانت آنذاك طالبة في المرحلة الثانوية، قالت إنها وأبناء جيلها من الذين شاركوا في الانتفاضة برغم صغر أعمارهم حينها إلا أنهم كانوا مدركين للظلم والانتهاكات التي طالت الشعب السوداني.
وفي الفروقات بين ثورتي ديسمبر وإبريل، فإنها تقول بأن الوعي السياسي الذي تشكَّل مؤخرا لدى الأجيال الجديدة المشاركة في ثورة ديسمبر لم يكن بنفس الزَّخم في انتفاضة إبريل. وتضيف: “الإنسان بطبعه متطوِّر، وجزء من عملية تطوره هذه تطوُّر العمل السياسي، ففي ديسمبر استخدم الشباب آليات جديدة ومبتكرة ساعدت في إيصال أصواتهم ومطالبهم”.
وتعتقد منى أن الحراك الشعبي في انتفاضة إبريل كانت أعلى سقوفاته حدوث انتفاضة تُزيل النظام ومن ثم تتكون حكومة. أما الآن فهناك حرص على استمرار الثورة إلى حين وصولها لغاياتها الكلية وتحقيق محاسبات عادلة لا تستثني أحداً من الذين أجرموا وأفسدوا.
منى ترى أن على الشباب لعب أدوار أكبر في التحول الديمقراطي، بأن ينخرطوا أولاً في أجهزة الدولة والأجسام السياسية ويعملوا على إصلاحها. تقول: “من الضروري حدوث ثورة داخلية وتغيير حقيقي في كل هذه المؤسسات حتى نضمن نجاح الانتقال الديمقراطي”.
وأضافت تجربة لجان المقاومة تجربة ناجحة بكل المقاييس، حيث استطاعت هذه اللجان عبر التنظيم الدقيق والمحكم أن تحافظ على جذوة الثورة المُفضية إلى نجاح الانتقال الديمقراطي، بجانب احتواءها لأعداد كبيرة من الشباب وتحويلهم لفاعلين سياسيين. وتضيف: “برغم نجاح التجربة إلا أن هؤلاء المقاومين يحتاجون لتدريب وتأهيل في عدة مناحي، مثل التدريب في قبول الآخر، وإدارة الوقت، والتدريب على ممارسة الديمقراطية نفسها”.

ثورة اجتماعية
ما يُميز ثورة ديسمبر أن جذوة حراكها ظلَّت مشتعلةً منذ اندلاعها في 2018 وحتى الآن، هذا الامتداد الزمني الذي قارب لأربع سنوات خلق نمط حياة ثورياً بالنسبة لكثير من السودانيين، كذلك هناك أجيال صغيرة تشكَّل وعيها وإدراكها السياسي خلال هذه الأعوام فتشربت بقيم الثورة، كما أن كثيرا من المفاهيم والمعتقدات التي كانت راسخة لمدى ثلاثين عاماً بدأت في التفكك والزوال. كل هذه التغييرات يمكن تصنيفها كثورة اجتماعية.
تقول الإعلامية والمدافعة عن حقوق الإنسان سلافة أبو ضفيرة: “لجان المقاومة بعد إسقاط البشير خرجت من إطار النخب السياسية التي ظلَّت تمتلك مفاتيح الممارسة السياسية في السودان لعقود طويلة، وبالرغم من أن الشباب المنضوين تحت لواء هذه اللجان لم يجدوا أساساً للممارسة الديمقراطية في السودان، وجزء كبير منهم ولد في حقبة الإنقاذ، إلا أنهم يدافعون باستماتة عن الديمقراطية والعدالة والحريات”.
وترى سلافة أن الممارسة لدي هؤلاء الشباب خلقت تغييرات عديدة وحالات اجتماعية من التواصل والتشبيك، واختلف أيضاً التعامل مع المرأة، حيث ظلت موجودة في كل مراحل الحراك حاضرة بزغرودتها التي تدشن بدايات المواكب، كذلك الفنون بشتى أنواعها كانت حاضرة خلال الثورة بتعبيراتها الجهورة، بجانب تبني لجان المقاومة لقيمة العدل والمدافعة عن أصحاب المظالم سواء أكانوا مقاومين أو أصحاب ملفات. وتقول إن كل هذه الحالات تُعدُّ من تمظهرات الثورة الاجتماعية.
وتقول سلافة إن هؤلاء المقاومين يحتاجون إلى معرفة نظرة العالم إليهم لتصدير نموذجهم هذا إليه، فهم حريصون على السلمية والبناء الديمقراطي ونجاح ثورتهم.