الخرطوم – عمار حسن
روى محمد ناجي الأصم، عضو تجمع المهنيين السودانيين، تفاصيل مؤلمة داخل معتقلات جهاز الأمن جوار موقف شندي سابقا بالخرطوم بحري، المعروفة بـ (التلاجات)، ذات البرودة العالية التي تنخفض فيها درجة الحرارة أحياناً إلى أقصى درجة.
واعتقل الأصم في الرابع من يناير 2019 بواسطة جهاز الأمن، من شقة بضاحية شمبات كان يقيم فيها متخفياً من السلطات عقب تفجر الاحتجاجات التي قادها تجمع المهنيين السودانيين ضد نظام البشير السابق.
وتعرض الأصم خلال الاعتقال إلى عنف شديد لدرجة عدم السماح له بانتعال حذائه، واقتيد إلى رئاسة جهاز الأمن بشارع المطار وحبس هناك ليوم واحد بوحدة تسمى الأمن الذاتي، وهي من الوحدات التي توكل لها مهمات الاعتقال الصعبة، وتمتلك هذه الوحدة أجهزة لمراقبة عالية تستطيع التجسس على الهواتف النقالة.
يقول الأصم لـ (سلا نيوز) “جلست لنحو 10 ساعات في وحدة الأمن الذاتي برفقة عدد من المعتقلين منهم الراحل دكتور حسن عبد العاطي”.
وأضاف: “في اليوم التالي اقتادوني لموقف شندي أو ما يعرف بـ (الثلاجات أو الفندق)، كنا نحو 9 أشخاص، وهناك يتم ما يعرف بتسليم الأمانات وتسجل في الدفتر ويفتش المعتقل بصورة دقيقة وتؤخذ جميع المقتنيات بما فيها الحزام وكل ما يعتبروه أداة عنف أو انتحار”.
وقال الأصم: “يلي ذلك أخذ عينة الدم لفحص أمراض (الكبد الوبائي- أي وبي) و(الايدز)”. ويصف هذه الخطوة بالمأساوية لجهة أنهم لا يخبرون المعتقل بسبب الفحص والنتيجة، وبناء عليها يُفرَز المعتقلون في زنازين مختلفة، بعضهم اكتُشفت إصابته بهذه الأمراض من خلال عزلهم لوحدهم، وكانت هذه واحدة من الهواجس، مع أن الفحص نفسه غير دقيق، ويمكن أن يكون المعتقل سليماً ويوضع مع مصابين”.
حفلة التعذيب
ووضع الأصم داخل زنزانة بالطابق الأول، حيث يضم الطابق الأراضي مكاتب للإدارة والتحقيق، وفي المنتصف توجد مساحة كبيرة مغلقة من جميع الجهات وتتم فيه ما يسمى بـ (الحفلة)، وهي عمليات تعذيب المعتقلين.
ووصف الأصم المكان قائلاً: “كانت الزنزانة ضيقة جداً، كنا نرقد فوق بعضنا البعض على الأرض، والزنزانة مصممة لسعة شخص واحد، وهذا واضح لأن بها كنبة بالحديد أشبه بالسرير، بجانب مرتبة، وبالكاد يمكن أن تسع ثلاثة أشخاص، تقريباً مساحتها نحو متر ونصف مربع وتضم حماماً داخلياً، وبابها مغلق تماماً، وبها فتحة صغيرة جداً لتمرير صحون الوجبات”.
وأوضح الأصم أن سبب تسميتها بالثلاجات لأن التحكم في التكييف ودرجة الحرارة يتم من الخارج وغالباً تخفض لأقصى درجة، بالإضافة للإضاءة التي تظل مفتوحة ليلاً ونهاراً. مردفاً: “بعض الزنازين بها شاشات التحكم بها من الخارج ويلزمون المعتقلين بحضور قنوات محددة”.
وتابع: “في المعتقل تُوفَّر وجبتان (فطور وغداء) الأولى عبارة عن عدس أو فول، ومعظم المعتقلين يفضلون الفطور عكس الغداء المليء بالدهون وغالباً يكون ملاح بطاطس، بامية، ورجلة، لكن في سجن كوبر هناك وجبة ثالثة مثل الشعيرية، وإذا جاءت إرسالية من الأسرة عادة يتم تمريرها خاصة إذا كانت مأكولات”.
حرمان من الشمس
وقضى الأصم نحو 98 يوماً في الاعتقال الأول 2019، ظفر خلالها بزيارة واحدة من أسرته بعد نحو 40 يوماً متنقلا بين كوبر وتلاجات الأمن بموقف شندي.
وقال الأصم: “في اعتقالي الأخير بأكاديمية الأمن في سوبا لم أر الشمس لخمسة عشر يوماً ولم يسمحوا لي بالخروج من الزنزانة، كذلك في معتقلات الأمن بموقف شندي لا يمكن رؤية الشمس، عكس سجن كوبر مع أنه كان يسمح لنا بالرياضة يوم بعد يوم خاصة بعد العصر”.
وأشار إلى أنه يعاني من مرض الأزمة تفاقم عليه خلال الاعتقال الأول والثاني، على الرغم من توفر الزيارات الطبية باستمرار لكنها أقرب لأداء الواجب، حيث يتعاملون مع المعتقلين من خلال الشباك، حسب قوله.
وزاد: “هذا غير معقول وينم عن تسطيح وعدم مهنية، وفي كثير من المرات المعتقل يشتكي من حمى وتصرف له روشتة علاج ملاريا دون فحص، وحدثت ملاسنات ذات مرة بيني وأحد الأطباء بعد أن كتب دواءً لمعتقل دون فحص”.
وأبان الأصم أنه لم يتعرض للتعذيب أو الضرب عدا لحظة الاعتقال لكنه شاهد تعذيباً جسدياً لعدد من المعتقلين، لافتاً إلى أنهم يستهدفون الشباب الذين يعتقلون من المواكب لترهيبهم وإثنائهم عن الخروج مرة أخرى. وزاد: “بعد كل يومين ينتقون عدداً من الشباب غير المعروفين أبرزهم طلاب جامعيون ويقيمون عليهم (حفلة) ويرغمونهم على الخوض في المياه الآسنة”.
هبوط وصعود
ويُعدُّ المعتقلون الجدد مصدر الأخبار لمن سبقوهم، حيث يقول الأصم: “عندما نذهب للتحقيق نجدهم ويأتوننا بالأخبار الجديدة، وفي بعض الأحيان العساكر المسؤولين من السجون يبلغوننا بالمعلومات عن الحاصل في الخارج، كنا في كوبر نشتم رائحة الغاز المسيل للدموع، وكنا نسمع الهتاف وأصوات الرصاص في الاعتصام منذ السادس من أبريل وحتى الحادي عشر من أبريل”.
وفي الاعتقال الأول أطلق سراح الأصم في الحادي عشر من أبريل 2019 عقب انحياز قيادة الجيش للمتظاهرين وعزل نظام الرئيس عمر البشير، بينما أطلق سراحه في الاعتقال الثاني 26 نوفمبر الماضي، عقب توقيع (الاتفاق السياسي) بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
ورأى الأصم أن المعتقل به لحظات هبوط وصعود تتغير باستمرار وأصعبها كان سماع أصوات الرصاص في محيط الاعتصام. وتابع: “لم نكن نعرف هل فض الاعتصام وكم عدد القتلى، وأفضلها لحظة الخروج وكانت أعظم لحظة عندما فوجئنا بعدد كبير من الجماهير في الشارع ولم يكن العدد بهذه الحجم قبل اعتقالنا”.
وأضاف: “من الطرائف كان في الزنزانة معتقل لم يتعرفوا على سبب اعتقاله، وكان يصر أنه مجرد تاجر سمسم وفي الآخر اكتشفوا أنه تاجر سلاح”.
سلامة نفسية
ووجد الأصم ورفاقه المعتقلون كتابات على الحوائط تركها المعتقلون السابقون معظمها (مرمزة) ولكن بعد أسبوعين تم طلاء الحوائط ليبدوا فيها الكتابة والترميز من جديد ويستخدمونها لحساب التاريخ وعدد أيام الاعتقال، وهذا يساعد على السلامة النفسية، حسب تعبيره.
وأشار إلى أنهم لحظة إطلاق سراحهم عرضوا عليهم حلاقة شعورهم إذا رغبوا لكنه رفض في المرتين، ورآها كالتسليم لأنها تتم عبر عسكري أو فرد من الأمن وأشبه بحلاقة العسكريين. وزاد: “لا يمكن للمعتقل اختيار نوع حلاقته”.
لسماع ما حكاه الأصم يرجى متابعة قناة (سلا ميديا) على (يوتيوب)