الخرطوم – مصطفى سعيد
منذ الصغر؛ لطالما أسرتني تجربة الأستاذ إبراهيم الصلحي، ولم أكن أعي الرموز ومدلولاتها في لوحاته؛ لكنها كانت مبهرة وفاتنة، وبرغم أن الأشكال كانت غريبة بالنسبة لي؛ إلا أنك تحس حيالها بالإلفة، وبها من العمق ما يُشعرك وكأنَّها نقوش لحضارة غارقة في القدم والعراقة.
مدرسة الخرطوم التشكيلية
لا يمكننا الحديث عن إبراهيم الصلحي إلا وأن نستصحب تجربته بمدرسة الخرطوم التشكيلية التي تُعد محطة وعلامةً فارقة في تاريخ التشكيل ليس السوداني فحسب، وإنما الأفريقي والعربي.
أطلق أستاذ الفنون والناقد الجاماكي (دينس وليامز) على الأعمال التشكيلية التي انتشرت بالخرطوم في حقبة الستينيات اسم (مدرسة الخرطوم التشكيلية)، وأصبح هذا الاسم تصنيفاً ملازماً لجميع الأعمال التي أُنتجت في تلك الفترة والفترات التي تليها، بل وحتى يومنا هذا.
يُعد الأستاذ إبراهيم الصلحي مع البروفيسور إبراهيم شبرين، وإبراهيم العوام؛ عرَّابي هذه الحركة الفنية، وخلفهم عددٌ من التشكيليين الذين ساروا على ذات النهج.
خلال الستينيات كان هناك سؤال مطروح اهتم بالإجابة عنه المثقفون والفنانون، فنشأت على سبيل المثال مدرسة الغابة والصحراء في الشعر، والغابة هي رمزية للأفريقانية؛ والصحراء رمز للعروبة. بينما ارتأت مدرسة الخرطوم التشكيلية أن تنأى بعيداً عن صراع الانتماء هذا وتُسلِّم بالسودانوية وإبرازها في الأعمال الفنية، حيث اتسمت باستخدام الرمزيات والأشكال المحلية مثل: البرش، واللوح، وطباق السَّعف، والأواني الفخارية، بجانب رسم الحيوانات مثل الثور الذي كانت ولازالت قرونه تُزين بها مداخل المنازل في بعض المناطق، وانتقلت القرون إلى العمل التشكيلي فكانت حاضرة في أغلب اللوحات المنتمية لمدرسة الخرطوم.
أما في التلوين، فإن الصلحي يقول إنه استشف ألوانه التي لوَّن به لوحاته من ألوان بيئة أم درمان الغارقة في اللون البنّي الترابي بدرجاته المتنوعة، بدءاً من لون تراب الأرض و”الجالوص“، و”الكتاحة“ وحتى ألوان بشرة الناس والألوان المصاحبة لجميع المناشط التي يقوم بها الإنسان السوداني.
حروفيات
في زيارة لإقليم دارفور لفت نظري حرف النون (ن) الذي يرتسم على كل أبواب الشوارع؛ وبمختلف الأحجام، وعلمت لاحقاً أنه يُرسم على الأبواب بغرض تحصين المنزل وساكنيه من كل شر، وهو مأخوذ من الآية القرآنية (نون والقلم وما يسطرون). يقول الصلحي إنه عندما أقام أول معرضاً للوحاته لم تكن زيارة وتفاعُل الناس مع المعرض كما توقَّع، لذلك قادته تلك التجربة إلى التنقيب عميقاً في شخصية الإنسان السوداني ومعرفة أمزجته والانتباه إلى القيم التصويرية بالنسبة له، ووجد أن السوداني لديه تدين صوفي فطري، ففي غالبية الغرف والصوالين السودانية تجد أن هناك آية قرآنية أو حديث نبوي مُعلَّق في لوحة على الحائط. وحدث أن أدخل الصلحي الحرف العربي في لوحاته ليتقرب من المزاج السوداني، ونجح في ذلك نجاحاً كبيراً بعد أن أضحت أعماله مدرسة.
يقول الكاتب البريطاني (أدريان هاملتون) إن الصلحي وعلى الرغم من أنه تأثر بالفن التشكيلي الغربي إلا أن الصور النابعة من – وطنه – هي التي تُثير الدهشة والإعجاب في أعماله، ويصفه بأنه ”فنان محدِّث ذو رؤية“، وأحد رواد نهضة الفن الأفريقي.
أما التشكيلي الكبير وأستاذ الفنون الجميلة الراحل حسين جمعان يقول عن تجربة الصلحي: إن أعماله تُفسر بالإقناع والإيحاء والتأويل في كثير من الأُطر الفلسفية والتأمُلية التي يتخيلها ويستلهمها في انفعالاته ويتحكم فيها ويظهر بأسلوبه المتمكن، الذي يتسم بقدر عالٍ من الصدق والإتقان والكمال.
رسم داخل السجن
تعرّض الأستاذ إبراهيم الصلحي للاعتقال السياسي لمدة ستة أشهر في فترة الرئيس السابق جعفر نميري بسبب مزاعم عن أنشطته المناهضة للحكومة.
هذ الاعتقال خلَّف أثراً عميقاً في تجربة الصلحي التشكيلية. ويحكي أنه وخلال أشهر السجن كان يقطّع الأوراق التي يُلف فيها الطعام المقدم إليهم إلى قصاصات صغيرة ويرسم عليها بقلم كان يحتفظ به سراً، ثم يجمع تلك القصاصات لتصير لوحةً كبيرةً تضم لوحات صغيرة مختلفة.
وفيما بعد أصبحت هذه الطريقة تكنيك فني استخدمه عدداً من التشكيليين الغربيين.
وعلى مستوى التلوين، فإن تجربة السجن قد حددت هوية الفنان اللونية بشكل أو بآخر، فقد كان داخل السجن يرسم بقلم رصاص دسّه من السجان، واستمر مع التلوين الأحادي حتى منتصف التسعينيات، استخدم في التلوين الأحادي تقنية التنقيط، وهي في هذه التقنية تكون النقطة هي المكون الأساسي للوحة، ويكون التلوين بتوزيع كثافة النقاط، كما أن العبقرية تكمن في ميلاد لون جديد من اللون الأسود وهو الرمادي الذي ينتج عندما تتمازج النقاط ذات الكثافة الأقل من بياض اللوحة.
معارض متنوعة
الأستاذ إبراهيم الصلحي عرض أعماله التشكيلية في عشرات المعارض الفردية في مختلف أنحاء العالم، وحالياً؛ تقتني العديد من المتاحف أعماله الفنية، ومن بينها متحف الفن الحديث ومتحف الميتروبوليتان، وغاليري الشيز مانهاتن بنيويورك، ومتحف الفن الأفريقي بواشنطن، ومتحف جوجنهايم أبوظبي، ومكتبة الكونغرس، والناشيونال غاليري بسيدني، وغاليري لامبير بباريس، والناشيونال غاليري في برلين، ومصلحة الثقافة بالخرطوم وفاز بجائرة الأمير كلاوس الهولندية المرموقة عام 2001.