الخرطوم – مصطفى سعيد
تعد الفنانة السودانية كمالا إبراهيم إسحق إحدى رائدات التشكيل السوداني والأفريقي، وهي من أوائل النساء اللاتي تخرجن في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم في العام 1960م، وكانت شخصية أساسية في الحركة الفنية الحديثة بالسودان، حيث ارتبط اسمها بمدرسة الخرطوم التشكيلية التي صاغت هوية فنية حديثة للأمة المستقِلّة حديثًا آنذاك، مستندة على التقاليد المزدوجة؛ العربية والأفريقية.
وُلدت كمالا إبراهيم إسحاق في أم درمان عام 1939، وحملت اسما هنديا غريباً لم يكن منتشراً في السودان. فسُـميت ”كمالا“، تيمناً باسم المناضلة الهندية وزوجة جواهر لال نهرو وأم أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند الشهيرة لاحقاً. درست كمالا في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم وتخرجت فيها عام 1963، لتستكمل دراساتها العليا في الكلية الملكية للفنون في لندن للفترة من 1964 إلى 1966. وعادت بعدها لتعمل في تدريس الفنون، وتواصل حياتها الأكاديمية في هذا المجال لعقود في السودان ومسقط عاصمة عُمان.
بعد عقد من الزمان تطورت أفكار كمالا، ورفضت تركيز مدرسة الخرطوم على التراث ونظرة العالم التي يُهيمن عليها الذكور، فأسست مع عدد من طلابها ما أصبح يعرف باسم المجموعة “الكريستالية” للفن المفاهيمي. وتنظر المجموعة الكريستالية إلى العالم كأنه بلا حدود وغير محدود، مثل البلورة بأوراقها الشفافة وزواياها وانعكاساتها المتعددة.
وركزت عملها على الجوانب غير الملموسة لحياة المرأة في السودان وإفريقيا والعالم العربي، وأدى اهتمامها بحياة المرأة إلى إجراء أبحاث ميدانية ولوحات واسعة النطاق عناوينها (الزار)، وهو احتفال نسائي سوداني تقليدي يستلزم امتلاك الروح والأداء المشابه للغيبوبة.
ظلت إسحاق نشطة في تنظيم المعارض مع الأجيال الشابة من الفنانات، ومن هنا مشاركتها في الحركات الاجتماعية الحالية حيث تلعب المرأة دوراً مركزياً وواضحاً.
ولا تزال كمالا إبراهيم إسحاق تحفز الفكري والقوة الملهمة بين جيل الشباب من الفنانين السودانيين.
المدرسة الكريستالية
تقول كمالا إن الأمر ابتدأ بعد أن قدمت لوحة كبيرة بطول 3 أمتار ونصف عُرضت في المتحف القومي تصور “15 كرة كريستالية” فيها تدرجات لونية وكانت تمثل ما يشبه علاقة الحياة بين الإنسان والنبات، ثم عرضت في عام 1977 في واشنطن في متحف الفن الأفريقي المعاصر”.
وتضيف: “ثم قام بعض طلبتي بكتابة مانيفستو أسموه المدرسة الكريستالية يُنظّر لهذا النوع من التشكيل. ثم بدأوا هم يعملون بنفس الفكرة والأسلوب و دون انتاج أعمال مشابهة”.
يقول البيان، الذي وقعه إلى جانب كمالا محمد شداد ونائلة الطيب وهاشم إبراهيم وحسن طه، وكتب بلغة نظرية تبدو مشوشة وتحمل الكثير من العمومية “إن جوهر الكون بمثابة مكعب بلوري كامل الشفافية وأبدي التحول، يتغير باختلاف موقف المشاهد. يقبع الإنسان أسيرا داخل هذا المكعب البلوري الشفاف بانتظار مصير عبثي المآل”.
ويخلص البيان، الذي نشر في صحيفة الأيام مطلع عام 1976، إلى ضرورة إيجاد نظرة شفافة بإزالة الحجب التي تغلف الإنسان، فهو “نفسه مشروع كريستالة تمتد في داخله إلى ما لا نهاية”.
ومن الواضح أن البيان محاولة للحاق بروح العصر حينها وفيه تأثرات واضحة بالفلسفة الوجودية والحركات الفنية الطليعية الأوروبية وتحديدا أصداء ظهور الفن المفاهيمي في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، ومحاولة للتميز عن مسار مدرسة الخرطوم، كما يصفه د. صلاح محمد حسن، الذي يشير إلى أن جل اهتمام “الكريستاليين يركز في العمل على وضع فكرتي (التحول) و(الصيرورة) في مقدمة اهتمام الفن التشكيلي كقوى جوهرية بديلا عن سيادة (السودانوية) التي تركز على أيديولوجيا (العودة إلى الأصل) التي تفردت بها مدرسة الخرطوم على مستوى الأسلوب والجماليات”.
تشكل التجربة الروحية مصدراً ثراً لكمالا، التي تعترف بتأثرها بأعمال الفنان والشاعر الإنكليزي وليام بليك. وتعيد هذا التأثر إلى فترة دراستها في الكلية الملكية للفنون في بريطانيا في منتصف الستينيات، حيث اعتادت أن تزور متحف تيت لمشاهدة أعماله.
وبدأ هذا الاهتمام من نصيحة من أستاذها في الكلية الذي وجهها أن يكون موضوع بحث تخرجها في موضوعة المقارنة بين تجربة “الاستحواذ الروحي” لدى وليم بليك والنساء السودانيات في جلسات الزار.
تقول إنها عادت إلى السودان إثر هذه النصيحة لمدة ثلاثة أشهر لعمل دراسة ميدانية تقارن بين التجربة الروحية المستخدمة للعلاج في جلسات الزار وتجربة وليم بليك الروحانية. وقد شكل هذا التركيز على البعد الروحي أحد مصادر تجربتها الفنية لاحقا إلى جانب استحضار عناصر طقسية أخرى من جذور أفريقية أو صوفية إسلامية.
لقد تركت كمالا بصمات واضحة في مسار بناء الحداثة في الحياة الفنية والثقافية في السودان وفي مجال الريادة النسوية للفن التشكيلي فيه، فضلاً عن حياة أكاديمية وتعليمية ثرة شكلت مصدر إلهام لدى جيل من الفنانين السودانيين الشباب.
ويركز الكثير ممن كتبوا في تاريخ الحركة الفنية في السودان على ريادتها في مجال تطوير “الفن المفاهيمي”، وكونها مرشدة لحركة فنية عُرفت لاحقا باسم “المدرسة الكريستالية” (البلورية) والتي صاغ بيانها في السبعينيات عدد من طلبتها. بيد أن كمالا تصر على أنها لا تحصر عملها في مدرسة محددة بل تتنوع أشكالها ومصادرها التعبيرية، كما قالت في حوار مع بي بي سي: “لا أميل أن أضع نفسي في صندوق، لا أعتقد أنه أمر صحي. فالحاجة التعبيرية للفنان في وقت محدد هي التي تحدد طبيعة العمل الفني”.
وأضافت: “لا أحصر نفسي في مدرسة أسلوبية لمدة طويلة. من الممكن أن أعبر عن نفسي بأي طريقة. فالمهم لدي ما تمثله اللوحة نفسها وما تفرضه الحاجة التعبيرية في داخلي. أنا لا أومن بأن تحجر نفسك في نوع محدد من الرسم”.
لعل المدقق في لوحات كمالا يتلمس بوضوح نوعا من النزوع الصوفي الواضح وتلميح إلى وحدة الوجود عبر تلك الاشكال المتداخلة بين البشر والشجر، فالأجساد البشرية تستطيل لتخرج منها أشجار، كما تكتسي الأشجار بملامح بشرية، من النساء في الغالب، أو كما تقول كمالا إنها دورة واحدة “الإنسان والنبات وحدة واحدة، وعندما يموت الإنسان يكون سمادا لينمو نبات ثانٍ”.
ويترافق هذا النزوع الصوفي مع اهتمام كبير بالفلكلور الشعبي الغني في بلد متنوع مثل السودان، فتستلهم كمالا في أعمالها أشكالا من الزخارف والنقوش والمطرزات الشعبية السودانية، لاسيما تلك التي تنتجها المرأة السودانية.
وعن ذلك تقول “يمثل التراث الفلكلوري بالنسبة إلى الكثير، فأنا منه. وفي السودان تنوع فلكلوري كبير: تجد النساء في الشمال يُزخرفن البيوت من الداخل ومن الخارج. والنساء في غرب السودان لهن طريقة مختلفة في الزخرفة، إذ يستخدمن السعف ويقدمن أعمالا جميلة جدا. ولدي بعض المجاميع من هذه الأعمال. وفي الجنوب والشرق يستخدمنَ الخرز الملون لصنع أعمال جميلة. أنا في مجتمع تعمل النساء فيه على وجه الخصوص أعمالا جميلة”.
ولا يتوقف استلهام كمالا للتراث السوداني عند الفلكلور بل يعود إلى جذور الحضارات القديمة ورموزها التي اكتشفتها خلال عملها في إعادة رسم وترميم الآثار السودانية، إذ عملت لأكثر من سنة مع المتحف القومي والبعثات الآثارية في إعادة رسم الآثار السودانية لمراحل “ما قبل التاريخ وتاريخ حضارة مروى والممالك المسيحية” في السودان وترميم النقوش البارزة في المعابد الأثرية.
وتسعى كمالا إلى مزاوجة هذه الأشكال والعناصر المستلهمة من التراث القريب والتاريخ البعيد مع روح الحداثة المعاصرة.
تصف كمالا مصادر فنها تلك بـ (المخزون الاستراتيجي)، إذ تقول: “ما عشته في مجتمعي وحياتي وما رأيته بالطفولة هو مصدر كل ما أرسم. أحيانا أرسم حاجات أتذكرها من الطفولة. مررت في حياتي بأشياء كثيرة وأحداث وأحاجي وأساطير وهي التي تؤثر في عملي الفني. وهذا ما أسميه المخزون الاستراتيجي”.
بيد أنها لا تتوقف عند تلك المصادر التاريخية أو الفلكلورية أو الرموز القبلية العميقة، بل تنهل حتى من تجاربها اليومية التي تغلفها أحياناً ببعد أسطوري. على سبيل المثال تمتاز الأشكال البشرية في لوحاتها بنوع من التشويه أو التشويش البصري أحياناً. تشرح لنا ذلك بقولها “عندما كنت أستقل قطار الأنفاق في لندن ويدخل في النفق، أرى الوجوه في الزجاج الذي أمامي مشوهة. تلك كانت بالنسبة لي تجربة مدهشة وغريبة واستلهمتها في بعض أعمالي”.
المعارض الفنية
أقامت كمالا العديد من المعارض، مثل معرض عشرة نساء، قاليري كارولين هيل 1981، ومعرض الفن الإفريقي المعاصر، مركز كامدن للفنون، لندن 1970، ومعرض الفن المعاصر لفنانات عربيات، واشنطن، الولايات المتحدة 1994، إضافة لمعرض عيون عربية لعشرة فنانات من العالم العربي، متحف الشارقة للفنون 1995، ومعرض سبع قصص ضمن مهرجان الفن الأفريقي، قاليري وايتشابل، لندن 1995، إضافة لمشاركتها في عدة معارض جماعية خارجية في كل من البرازيل، لبنان، اليونان، إيطاليا، الكويت، نيجيريا وتونس.
وفي سبتمبر 2019، فازت كمالا إسحاق بجائزة الأمير كلاوس الرئيسية وقيمتها 100.000 يورو، وفي قرار منحها جائزة الأمير كلاوس، قالت لجنة الجائزة: “بقيت إسحق ناشطة في تنظيم معارض مع فنانات من أجيال شابة، وبالتالي كانت مساهمتها في الحركات الاجتماعية الراهنة، حيث تلعب النساء دوراً مركزياً مرئياً. واستمرت في دورها كمحَفّز ثقافي وقوة ملهمة بين جيل الفنانين السودانيين الشباب”.