ياسر عرمان
1
بصمات قرنق لا تزال حاضرة ومؤثرة بعد 17 عاما على رحيله في 30 يوليو 2005 ونحن الذين عشنا زمن قرنق وتعلمنا منه الكثير لا بد لنا أن نتحدث عنه فقد كان أخانا الكبير وزعيمنا، ولا يزال كذلك.
يمكنني الحديث بكل ثقة عن قدراته الواسعة وإنسانيته الأوسع مجالا. وأن تلتقي قرنق وتعمل معه فإن في ذلك متعة وإمكانية أعمق في معرفة ذلك الإنسان الثوري والمناضل والمفكر الذي لم يسمح للقضايا الصغيرة أن تستوعب طاقاته، ولم يجمد تفكيره عند حائط الإثنية القصير وضيق الجغرافيا ومظالم التاريخ ومفارقاته ولكنه كان إنسانا تقدميا رأى في اليأس الأمل وفي النزاع إمكانيات التواصل، ومن الآلام في الماضي ولادة مستقبل مشرق للجميع.
انحاز قرنق منذ البداية للسودانوية ووحدة السودان وإفريقيا والإنسانية بعيدا عن محددات الجغرافيا والدين والاثنية، ورأى في التنوع امكانية الوحدة وأطل في بداياته من مدينة بور في 16 مايو 1983 على فضاء السودان الواسع، ومن بداياته في ريف بور استطاع التأثير على كل السودان.
ومدرسة الكفاح المسلح السودانية وما تمخض عنها خرجت من معطف قرنق، وبرحيل قرنق انطوت صفحة الكفاح المسلح الواسع النظرة والتقدمي المحتوى واستأثرت الجغرافيا والإثنية بما تبقي رغم المحاولات هنا وهناك للخروج من ضيق احذية القبائل والجغرافيا والإثنيات، وهنا تكمن أهمية قرنق.
2
قرنق مبيور ذو قدرة نادرة في جمع المتناقضات ورغم إن الحركة الشعبية قد نشأت في تشكيلات ما قبل الراسمالية والمجتمع الحديث إلا أنه قد دفع بها لمخاطبة جوهر قضايا المشروع الوطني. وظهرت قدرته وإمكانياته الفذة في جمع المتناقضات والخروج منها برؤية متجانسة، وفي اعتقادي أنه افضل شخص التقيته على مر تجربتي أجاد الربط الجدلي بين الوقائع المختلفة بل والمتناقضة والتوجه بها في إطار جديد يخدم أهدافه النهائية. وقد كانت لقرنق مبيور قدرة عجيبة في السباحة في بحر المتناقضات والوصول بسرعة لما هو رئيسي وما هو ثانوي في أعقد القضايا، ولا يغرق في ما هو ثانوي تاركا ما هو رئيسي.
عالج قرنق قضايا معقدة كانت لتنفجر في وجه آخرين كما ذكر لي ذات مرة في تعليقه على الخلاف بينه والرفيق الفريد لادو قوري الذي تعرف عليه في الستينات. وقرنق مبيور نفسه مثقول ومصنوع من عطر الستينات وسحرها وأحلامها الكبيرة.
دكتور جون قرنق لا يفقد حسه بالفكاهة وقدرته على توليدها وإسداءها في أعقد اللحظات واكثرها كآبة، ولا زلت أضحك أحيانا بلا مناسبة حينما اتذكر قفشاته في أوقات حزينة ومفرحة، ولكم كان قرنق إنسانا جميلا وحقيقيا في سنواته الـ(60) التي أمضاها في ضيافة الأرض.
3
كان قرنق مثقفا ومفكرا عميقا لا يرضى بالقليل من الأحلام ويأخذ اكثرها اتساعا غير عابئ بوحشة ووعورة الطريق لم يرضى بالأحلام الأقل حتى لو كانت بحجم جنوب السودان.
خاض قرنق الحروب ولكن هدفه النهائي كان السلام والعدالة والحرية والمواطنة والتنمية في ظل سودان جديد.
تحصل قرنق على الماجستير في العلوم العسكرية من كلية (فورت بني) للمشاة ذائعة الصيت في أتلانتا مع زميله سعود أحمد حسون مبتعثين من القوات المسلحة السودانية. ووالد سعود أحمد حسون- أحمد حسون- كان مرافقا للمناضل الكبير مالكوم إكس، وهو الذي صلى عليه عند اغتياله في مدينة نيويورك. مع ذلك فإن قرنق قد درس وتخصص في الاقتصاد الزراعي الذي يقع في عمق قضايا التنمية ومستقبل السودان.
من المؤكد أن قرنق قد ساهم بوضوح في إجلاء كثير من قضايا المشروع الوطني الذي يمكن أن يوحد السودان، وكثير من شعارات ثورة ديسمبر الحالية والتي تحتفي بالتنوع والمواطنة والحرية والسلام والعدالة ذات صلة وثيقة بطرح قرنق، وهو يعد بحق من آباء الديسمبريين والديسمبريات.
4
أدين لقرنق بأن جعل معرفتي أفضل بالسودان وبذاتي الوطنية، ولفت انتباهي بعمق لأهمية الوحدة في التنوع والمشروع الجامع الذي يجمع ولا يفرق والذي يحتاجه السودانيين في دولتي السودان لبناء وطني قائم على المواطنة بلا تمييز والوحدة في التنوع أعمق القضايا التي تواجه البلدين.
5
حطم قرنق حوائط فكرية وسياسية سميكة الجدار وسعى لإحياء روابط الوطنية السودانية وعمل بجهد عظيم لبناء جسور التواصل بين السودانيين في سباحة ضد الذاكرة المثقوبة.
أشعر بالامتنان ولا زلت أذكر فضله على نحو شخصي بأن اعطاني فرصة نادرة للعمل مع مناضلين من مليون ميل مربع في السودان، ودفع بي في العديد من المنابر الخارجية الهامة.
لا يزال مطلب الاتحاد السوداني بين بلدين ذوي سيادة شمالا وجنوبا حاضرا في الاجندة الوطنية لمقابلة تقلبات العالم المضطرب ونهب الموارد ووفاءا لقرنق ورؤيته الثاقبة التي لا تزال هي اللعبة السياسية الوحيدة المتوفرة في مدينة خالية من العواطف التي تجمع سيما وإن ما يفرق السودانيين قد ازداد.
6
أودت الطائرة بحياة قرنق ولكنه لا زال حاضرا وحيا ولا زال بوستر قمت بتصميمه في عام 2006 بعنوان (دكتور جون قرنق رؤية لا تموت) ما زال حاضرا ومعبرا، وما زال قرنق جميلا في كل الأزمنة.
الحركة الشعبية في السودان ليست في أفضل احوالها إذ تحتاج لبناء تيار ثوري يقف مع ثورة ديسمبر وأجندتها بلا تردد، ومع وحدة السودان القائمة على الحرية والسلام والعدالة والمواطنة بلا تمييز.
إن السلام واتفاقية السلام تعني التغيير لا الحفاظ على القديم، وثورة ديسمبر تقع في عمق مشروع الحركة الشعبية. إننا نحتاج إلى ميلاد جديد ينحاز للشعب والفقراء والمهمشين والنساء بلا مواربة ولا يكرس القديم بإسم السلام فإن القديم لا يلد إلا الحروب، وهكذا قال قرنق.
المجد لقرنق في الأعالي
وعلى الأرض السلام
والسلام على قرنق يوم أن ولد
والسلام عليه يوم أن رحل
وهو اليوم عصي الغياب
30 يوليو 2022