آخر الأخبار

حول إمكانية ابتكار مدارس تشكيلية جديدة

التحديث في مواجهة التراث

 

مصطفى سعيد

تُعدُّ مسألة التحديث ومجاراة الواقع الذي بات يركض ركضاً نحو الجدَّة والآنية، من أكبر المسائل الجدلية التي فتحت أبواباً واسعة للاجتهاد والتنظير، فرسوخ القديم واستمراره لفترات طويلة في الغالب يخلق جدلاً أو صراعاً مع الجديد.

الفنون التشكيلية تتطور وتتحول وفقاً لعوامل عديدة؛ كالزمان والمكان والاهتمامات المختلفة، وهذا التطور (التحديث) دائماً ما يُنظر إليه وكأنَّه انقلاب على القديم. يُقال إن الفنان الفرنسي (جاك لويس ديفيد) كان قد ابتكر مدرسة أطلق عليها اسم (الكلاسيكية العائدة)، وأراد من خلالها استرجاع أمجاد الرُّواد الأوائل، حيث قام حينها بفرض قواعد فنية صارمة تتعلق بالنسب والتناسب والتلوين والموضوعات، حتى أنه كاد أن يسلب الفن قيمته المستمدة في الأساس من الحرية، أي حرية اختيار المواضيع ومعالجتها، وحرية التعبير بالأشكال والرموز التي يراها الفنان مناسبة، ولم تمضِ سنوات حتى حدث ما هو أشبه بالتمرُّد والثورة على هذه القيود، وأنتج هذا التمرُّد مدارس فنية مختلفة نراها تتجدد وتتوالد حتى يومنا هذا.

في الماضي السحيق كان الإنسان الأول يقوم برسم أنشطته اليومية مثل الزراعة والرعي والصيد؛ ويقوم بتدوين هذه الأنشطة في شكل لغة مُرمَّزة على جدران الكهوف، وتُعدُّ هذه الرسومات البدايات الفعلية للرسم الرمزي الذي تطور عبر التاريخ ووصل ليتنافس مع الواقعية؛ ثم يكون الذروة التي يُتوَّج بها غالبية الفنانين مسيرتهم الفنية.

ومصطلح الفن الحديث كما يعرفه قاموس المورد هو نزعة في الفن تهدف إلى قطع كل الصلات بالماضي والبحث عن أشكال جديدة للتعبير، هذه النزعة تم تاريخها في الفترة من عام 1860وحتى عام 1970م، وكان أهم ما يميز تلك الفترة هو عدم اهتمامها بالتقاليد القديمة في الفن التشكيلي ولا العرف الخاص بمفهوم فن الصالونات، ولكنه يتعدى ذلك ليتبدل إلى مفهوم طليعي يبحث عن كل ما هو جديد ومغاير ومختلف، مستنداً إلى معطيات العصر المعلوماتية والمعرفية والتقنية، فلم يتعرض الفن الحديث في البداية إلى مسألة الأسلوب، وتركزت اهتمامات المحدثين حول الموضوع والمضمون.

إذا أردنا أخذ مدرسة الخرطوم التشكيلية نموذجاً تطبيقياً للمدارس الحداثوية التي استخدمت الرمز في خدمة الموضوع؛ واهتمت بتسليط الضوء على قضية معينة مثل قضية الهوية، فإننا نجد أن رمزيات هذه المدرسة لديها علاقة مباشرة بقضيتها المحورية، وهي رمزيات السودانوية المتمثلة في الإنسان السوادني؛ والذي يُرمز له بشيء من لوازمه؛ مثل لون البشرة الأسمر والملامح الأفروعربية، أو الأزياء القومية مثل الجلابية والتوب، أو أنشطته الحياتية كالزراعة والرعي والرقصات الشعبية، ثم تظهر رمزيات محلية أخرى مثل رمزيات الثروة الحيوانية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتبيان الهوية، وارتباط الحيوان وإبرازه ضمن الثقافات المحلية هو ارتباط غارق في القدم وله أبعاداً متعددة، فالأبقار في جنوب السودان تكاد أن تكون مقدسة، وكذلك طائر الفلامنغو في الثقافة الأسبانية، أو الدب القطبي لدى الروس، أو رمزية الديك لدى الفرنسيين. نعود إلى استخدام هذه الرمزيات في الرسم التشكيلي، فلازالت رمزيات مدرسة الخرطوم التي شيّدها الأوائل تطغى على الأعمال الجديدة، ومن هنا تُطل الحداثة ضمنياً في أسئلة مثل: هل خرطوم اليوم هي ذات الخرطوم التي عاش فيها “الصلحي” بواكير صباه وأنشأ فيها مذهبه الفني؟، الرموز التي استمدّها الرّواد من الواقع وعكسوها في لوحاتهم، هل لازالت موجودة على نطاق حياتنا ونستخدمها في أنشطتنا المختلفة حتى اليوم، أم أنها صارت جزءاً من التراث المندثر؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة علينا أن نستصحب عامل التمييز الشكلي الذي ساعد في استخدام هذه الرموز استخداماً فنياً، فـ”الهبّابة” و”البِرِش” وقرون الثيران والملامح والسِحَن المتعددة والقِباب والجُبُب المرقّعة وأهلّة المساجد وصلبان الكنائس؛ كل هذه الأشياء هي أعمالٌ فنية تحوي الفن في ذاتها، وتحتوي على كم هائل من الإبداع الفطري، لذلك عندما يتم تسخيرها ومزجها بشكلٍ علمي ومدروس يكون أثرها عميق لدرجة أنها يمكن أن تؤثّر في الكثير من المعطيات كما فعلت مدرسة الخرطوم.

بالرجوع إلى جدلية التحديث، أعتقد أن هناك حالة يمكن أن نُطلق عليها (الكلاسيكية المستمرة) وهي حالة من التسلسل اللامتناهي لأعمال الرّواد الأوائل، حتى أصبحت أغلبية الأعمال تتشابه شكلاً وموضوعاً، ماعدا بعض التجارب الجريئة، التي في كثير من الأحايين تتورط في جاذبية الكلاسيكية، وتنأى عن التجديد الكلي مكتفية بالتجديد الجزئي، وأعتقد أن التحديث الجزئي يسعى ليُمازج ما بين القديم والجديد، ويمكن أن يكون منفذاً لظهور مدارس تشكيلية سودانية جديدة.

لظاهرة الكلاسيكية المستمرة وتضاؤل التحديث أمام التراث فرضية، وهي أن رمزيات التراث أقوى تأثيراً من رمزيات الحديث؛ وبالتالي أصبحت تجارب التحديث خاضعةً تماماً لتجارب التراث.

لسنا بصدد إنشاء فكرة متطرفة تسعى لإلغاء القديم ومحوه، بل العكس؛ القديم يجب أن يُحدّث ويُطوّر ليكون مواكباً، وهو أمر حيوي طبيعي، ومتى ماتحقق ذلك يمكننا أن نشهد ميلاد مدارس فن تشكيلي سودانية قد تتجاوز محليتها إلى التأثير على التيارات الفنية التي تسود العالم اليوم.

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.