آخر الأخبار

زحل يلتهمنا جميعاً!

 

مصطفى سعيد

الرسام الإسباني فرانشسكو جويا قام برسم عدة لوحات في جدران غرفته عبّر من خلالها عن هواجسه النفسية واضطراباته، ومن ضمن هذه اللوحات رسم لوحة سُمِيت بـ (زُحل يلتهم ابنه) وتُجسِّد التيتان زُحل، وهو يقوم بافتراس أحد أبنائه بصورة مريعة، و(التيتان) وفقاً للميثلوجيا اليونانية هم نسلٌ من الآلهة الأقوياء، وتحكي الأساطير بأن التيان زُحل كان يلتهم أبناءه فور ولادتهم خشية أن يُنازعوه في الحكم.

لفت انتباهي بوستر للفيلم السوداني (ستموت في العشرين) يُظهر الأم (سكينة)، وهي تُمسك بطفلها الصغير (مزمِّل) بنفس وضعية الالتهام التي قام بها زُحل مع ابنه.. وبالرجوع إلى تفاصيل قصة الفيلم فإن الأم قد حكمت على صغيرها بالموت منذ أن حملته لشيخ القرية ليُباركه، وبمجرّد سقوط الدرويش الحاضر لعملية المباركة وصياحه (سبحان الله عشرين!) فإن جميع الحضور قد تطيَّروا بالحادثة، ورسمت مخيلاتهم سيناريو مستقبلي لحياة هذا الطفل الوليد، وأنه لن يعيش طويلاً ولن يتخطى عمره عشرين عاماً!

رددت إحدى النسوة (وآحرقة حشاك يا سكينة)

ومن حينها بدأت الأم في التهام طفولة ابنها؛ حيث ارتدت ثوب الحداد وراحت تحسب ما تبقى من العشرين، وقررت أن يذهب هذا الطفل إلى ربه نظيفاً نقياً حافظاً للقرآن الكريم غير متدنِّساً بأي مظهر دنيوي.

في الجانب الآخر كان الطفل مستسلماً، كاستسلام ابن زُحل بين فكَّيْ والده الذي يفترسه بوحشية؛ ويُصادر حقه في الوجود، وأذنه يخترقها كل لحظة من أقرانه لقب (ود الموت).

يقول الطيِّب صالح: “نحن قوم نخاف الفرح، إذا ضحكنا نستغفر، نخشى البهجة ونتمسك بالقتامة في كل شيء.. يا لرتابتنا!!”.

التمسُّك بالقتامة صفة أصيلة في تركيبتنا، نُقدّس الموت ونحتفي به، فإذا مات أحدنا ننصب سرادق العزاء العاتية، وتُنحر الذبائح وتتعالى أصوات (السَكَلِي) أو (السِكْلِيب- محرّفة من العربية “الثكل”) في عرض تراجيدي احترافي تمتزج فيه أصوات النواح المُقفّاة مع الأداء الجسدي والذي كان يُعرف قديماً بـ (الرَدحِي)، وبعد عدة أيام نُعيد استذكار فقيدنا ونُقيم كرامة الـ (الخمسطاشر) و(الأربعين) والحول.

ما من احتفاء أكثر من ذلك!!

أعتقد أن تقديس الموت عادة أصيلة ورثناها من أسلافنا النوبيون، فبمجرد تنصيب أحدهم ملكاً يستهلك عمره في الحياة وأمواله في تشييد مقبرة عظيمة تليق بمقامه بعد موته، ربما هو سعينا وإيماننا بفكرة الخلود.

ولكن إيماننا بهذه الفكرة اغتال في الكثيرين مِنَّا حق الحياة وجعل سنينهم تُلتهم أمام ناظرهم بشراهة مخيفة.. التهام لم تُراعَى فيه الأنَّات ولا التوجُّعات!!

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.