آخر الأخبار

فان جوخ.. هواجس الخلاص والمغادرة نحو الربيع!

 

مصطفى سعيد
عندما كبُر قليلاً أخبرته أمه أنها أسمته ”فان جوخ“ تخليداً لاسم أخيه المتوفى، أحس ذلك الطفل حينها أنه ليس إلا انعكاساً لشبحٍ غير موجود، كائن أريد له أن يكون بديلاً ونسخاً لكائن ميت، وهكذا عاش فينست غارقاً في غربته الحياتية، وظل إحساس اللا انتماء يطارده طيلة حياته.
ولد الفنان الهولندي فينست فان جوخ في العام ١٨٥٣، ونشأ في جو ديني صارم نسبة لأن أباه كان قسيساً، وقد ساهم ذلك في تكوين شخصيته، وفي سن الـ ١٦ ذهب ليعمل مع عمّه في صالة لبيع الأعمال الفنية بباريس، وحينها أبدى فينست تميزاً وعبقرية في إقناع الزبائن بشراء الأعمال الفنية، لدرجة أن الشركة قد قررت ابتعاثه ليعمل في فرعها بلندن، وقبل ذهابه للندن اعترف لإحدى الفتيات التي تُدعى (آرسيولا) بحبه؛ إلا أنها صدّته وسخرت منه، مخلّفة في داخلة جرحاً غائراً لم يتعافَ منه أبداً. ذهب فينست ليعمل في لندن، ومع صدمته العاطفية أصبح أكثر ميلاً للانعزال والتدين، وكان يُلقي على مسامع الزبائن مواعظ دينية بدلاً من إقناعهم بشراء اللوحات، وقبل أن تفصله الشركة؛ تقدّم باستقالته وقرر أن يكرّس حياته للخدمة الدينية، وعاد مجدداً إلى هولندا كرجل دين والتحق بمعهد لاهوتي بأمستردام، وعمل واعظاً بين الفلاحين وعمّال المناجم، وقد كان جانبه الإنساني طاغياً على كاريزما رجل الدين، فقد كان يسهر الليالي برفقة العمال المصابين بحمى التايفوئد يخفف عنهم آلامهم ويحتوي انكساراتهم، ورأت السلطات الدينية أنه بذلك يتجاوز الحدود المرسومة له واعترضت على طريقته في تطبيق التعاليم المسيحية؛ فقررت إبعاده.


في أي مكان كان الفشل يتحرّش بفينست.. وبرغم ذلك كتب رسالة طويلةً لشقيقه وصديقه الأوحد ثيودور؛ وقال له إنه لن يستسلم. وقرر أن يتحدى ذلك الفشل بالرسم؛ وبدأ حياته الفنية بتخطيطات بسيطة كان يُرسلها على الدوام لشقيقه ثيو، كان ثيو مشجعاً وداعماً لأخيه الأصغر؛ وحثّه على الاستمرار والمواظبة في الرسم؛ كما خصص له مبلغاً من المال ليساعده في بداياته الفنية، وفي السابعة والعشرين من عمره التحق فان جوخ بأكاديمية الفنون، كانت اللوحة التي اعتبرها فينست مرحلة مفصلية في حياته الفنية؛ هي لوحة The potato Eaters ؛ ويُظهر في اللوحة الزيتية أسرة فقيرة تجتمع على مادة طعام، وقد لونها بألوان زيتية قاتمة، وسميت هذه المرحلة من حياته بالمرحلة الهولندية.
* لماذا قطع أذنه؟
من أكثر القصص تداولاً في عالم الفن هي قصة أذن فان جوخ، وتختلف الروايات عن هذه الحادثة، إلا أن الثابت فيها تأكيد قطع الأذن، ففي رواية يقال أن فينست أراد أن يرسم بورتريه شخصي له؛ ولم يستطع رسم الأذن؛ فقام بقطع أذنه لينقل منها التفاصيل، وفي رواية أخرى يقال أن حبيبته طلبت منه أذنه في إحدى مداعباتها ففعل، وأيضاً يُقال أنه أحب فتاة ولم ير إلا أن يُقدم لها أذنه كهدية قيمة، أما في كتابها Van Gogh’s Ear.. The true story


فقد كتبت المؤرخة بردينيت ميرفي أن فان جوخ قد قطع أذنه وقام بإعطائها لفتاة تُدعى ريتشل، وكانت هذه الفتاة تعمل في إحدى الحانات كعاملة نظافة واسمها الحقيقي غابرييل، وعانت هذه الفتاة من تشوُّهٍ في وجهها جرَّاء هجوم كلب عليها، وكان مرتادي الحانة يسخرون من شكلها، فما كان من فان جوخ إلا أن قام بقطع أذنه ليصرف سخرية رواد الحانة عن غابرييل عن ويُحوِّل السخرية إليه!.

 صراع وجودي عنيف
الغالبية ترى أن هناك تناقضاً كبيراً بين ما يريدون وما يعيشون، وأحياناً يتطور هذا التناقض ليصل إلى مرحلة الصراع، فيجد الإنسان نفسه واقفاً على ساحة ذلك الصراع المتصاعد، وتهوي مطرقة الواقع على توقّعاته الوردية الحالمة لتُهشمها.
كما أسلفنا فإن فينست فان جوخ قد نشأ في جو ديني، وغُرِست في نفسه مبادئ وقيم ومُثل عليا، وعندما كبر؛ وجد أن هذه المبادئ تتقاطع في كثير من الأحايين مع موجودات الواقع، فبدأت في داخله موجة من الصراع العنيف، وأضحى مهووساً، مشككاً، متناقضاً.. ميكانيكا عقله لا تكف عن الحركة، ولم يكن هناك وسيلة للتعبير عما تمور به الدواخل إلا الرسم الذي كان شارحاً لمأساة إنسانه، حتى في رسمه كان قلقاً لا يعرف الاستقرار لريشته وألوانها سبيل.
توصل فينست إلى رؤية تُفضي إلى عبثية الواقع، لكنه لم يسمح لهذه العبثية بأن تهزمه، وذهب إلى أن يخلق واقعاً موازياً ويعيش فيه، لوَّن ذلك الواقع المتخيل بالأزرق والأصفر والأخضر والأحمر، وملأه بحقول دوار الشمس الزاهية، والمُدن المضيئة والأناسي الغارقون في انفعالاتهم، إلا أنه كان عندما يفرغ من تشكيل واقعه المُتَخَيل ويرجع إلى الواقع الحقيقي؛ يُصاب بالإحباط ـ وكأن البؤس يتربّص به.


وفي ذات يوم؛ تتعالى نوبات القلق والاضطرابات في نفس الفنان ويقرر الخروج إلى الحقل ليمارس طقس هروبه اليومي؛ ذلك الطقس المحبب، حمل حقيبة ألوانه ودسَّ في ملابسه مسدساً!
لوّن الحقل الممتد بألوانه الزاهية، وأزهار دوار الشمس التي تمد رؤوسها نحو الضياء، وبعد أن انتهى؛ خرج من واقعه المتخيل؛ ثم أخرج المسدس من بين ملابسه وأطلق النار؛ علّه بذلك يقضي على البؤس الذي يعتريه ويغادر نحو الربيع!

 ليلة مُرصّعة بالنجوم
في يونيو 1889م؛ قام فينست فان جوخ برسم لوحة زيتية على قماش يصور من خلالها المنظر المُطِل عبر غرفة المشفى في سان ريمي دي بروفانس، قبل شروق الشمس مباشرةً، مع إضافة قرية مثالية، كانت في المجموعة الدائمة لمتحف الفن الحديث في مدينة نيويورك منذ عام 1941، وتعتبر هذه اللوحة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ التلوين.
وتعود قصة اللوحة إلى أن فان جوخ احتفظ باللوحة في البداية، ومن ثم أرسلها إلى شقيقه ثيو في باريس، بجانب تسع أو عشر لوحات أخرى، وتوفي ثيو بعد أقل من ستة أشهر من فينسنت، في يناير 1891، ثم أصبحت أرملة ثيو، جو، هي القائدة المؤقتة لإرث فان جوخ، وقد باعت اللوحة للشاعر جوليان لوكليرك في باريس في عام 1900، الذي استدار وباعها إلى إميل شوفنكر، صديق غوغان القديم، في عام 1901. ثم اشترت جو اللوحة من شوفينكر قبل بيعها إلى معرض أولدنزيل في روتردام في عام 1906، ومن العام 1906 إلى 1938 كانت اللوحة مملوكة للسيدة جورجيت ب. فان ستولك، من روتردام، التي باعتها لبول روزنبرغ من باريس ونيويورك، من خلال روزنبرغ، ثم حصل متحف الفن الحديث على اللوحة في عام 1941.
وكان التحقيق في هذه اللوحة من قبل العلماء في معهد روتشستر للتكنولوجيا ومتحف الفن الحديث في نيويورك، و الصباغ أظهر التحليل أن السماء كانت رسمت مع اللازورد و الكوبالت الأزرق والنجوم والقمر استخدم فان جوخ في تلوينهما الصباغ النادرة من الهندي الأصفر مع الزنك الأصفر.


على الرغم من العدد الكبير من الرسائل التي كتبها فان جوخ، لم يقل سوى القليل عن ليلة النجوم، بعد الإبلاغ عن أنه رسم سماء مرصعة بالنجوم في يونيو، وذكر اللوحة في رسالة إلى ثيو في 20 سبتمبر 1889 أو حوالي ذلك، عندما أدرجها في قائمة اللوحات التي كان يرسلها إلى شقيقه في باريس، في إشارة إلى أنها ”دراسة ليلية“، من هذه القائمة من اللوحات، كتب قائلاً: ”في كل الأشياء الوحيدة التي أعتبرها جيدة بعض الشيء هي ويتفيلد، الجبل، البستان، أشجار الزيتون مع التلال الزرقاء والصورة ومدخل المحجر، وقرر كبح ثلاث لوحات من هذه المجموعة لتوفير المال على البريد، كانت ليلة النجوم واحدة من اللوحات التي لم يرسلها.
وأخيرًا، في رسالة إلى الرسام إميل برنارد من أواخر نوفمبر 1889، أشار فان جوخ إلى اللوحة بأنها ”فشل“!
أشار ثيو إلى العناصر التصويرية في لوحة النجوم في رسالة إلى فنسنت بتاريخ 22 أكتوبر 1889، كاتباً: ”أشعر بوضوح بما يشغل بالك في اللوحات الجديدة مثل القرية في ضوء القمر (ليلة النجوم) أو الجبال، لكني أشعر أن البحث عن الأناقة يسلب الشعور الحقيقي للأشياء“، أجاب فينسنت في أوائل نوفمبر: ”على الرغم من ما تقوله في رسالتك السابقة، أن البحث عن الأناقة يضر غالبًا بصفات أخرى، والحقيقة هي أنني أشعر بنفسي مدفوعًا إلى حد كبير للبحث عن الأناقة، إذا أردت، ولكني أعني بذلك المزيد رسم ارتجالي وأكثر تعمدًا، إذا كان ذلك سيجعلني أشبه ببرنارد أو غوغان، فلن أتمكن من فعل أي شيء حيال ذلك، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأنك تعتاد على ذلك على المدى الطويل“.
وفي وقت لاحق في نفس الرسالة، كتب قائلاً: ”أعرف جيدًا أن الدراسات التي تم استنباطها بخطوط طويلة متعرجة من آخر شحنة لم تكن ما يجب أن تصبح، لكنني أجرؤ على حثكم على الاعتقاد بأنه في المناظر الطبيعية سوف يستمر الشخص لحشد الأشياء عن طريق أسلوب الرسم الذي يسعى للتعبير عن تشابك الجماهير“.
تعرض فان جوخ للانهيار في يوليو عام 1889، وبذور هذا الانهيار كانت موجودة عندما رسم فان جوخ ليلة النجوم، وأنه في تسليم نفسه لخياله تم اختراق دفاعاته، في ذلك اليوم في منتصف يونيو، في حالة من الواقع المتصاعد، مع وجود جميع العناصر الأخرى للوحة، ألقى فان جوخ نفسه في لوحة النجوم.

* رسالة إلى ثيو
عزيزى ثيو:
إلى أين تمضى الحياة بي؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة..
إننى أتعفّن مللاً لولا ريشتى وألوانى هذه؛ أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤُها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التي يتعثّر بصرنا بها كل يوم.
كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي كذلك فى الطبيعة أم أن عيناي مريضتان؟ هأنذا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.


في قلب المأساة وخطوط من البهجة، أريد لألواني أن تظهرها، في حقول «الغربان» وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى «حذاء الفلاح»، الذي يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة.. للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة؛ وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية، ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرر، يا وجه فنسنت القبيح، لماذا لا تتجدد؟
أبصق في المرآة وأخرج..
واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون:
عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر، ولحية كألسنة النار!. كانت الأذن في اللوحة ناشزة، لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط على، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها، حسناً؛ ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها.. الآن أستطيع أن أسمع وأرى بإصابعي، بل إن إصبعي السادس «الريشة» لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتشب وتداعب بشرة اللوحة..
أجلس متأملاً:
لقد شاخ العالم، وكثرت تجاعيده، وبدأ وجه اللّوحة يسترخي أكثر.. آه يا إلهي، ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة، الألوان، وبسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة؛ حادة ورشيقة.. ألواني واضحة وبدائية. أصفر، أزرق، أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها، كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.


أمس رسمت زهوراً بلون الطين بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء، تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان؛ غربان وقمح.. الغربان تنقر في دماغي؛ غاق.. غاق..
كل شيء حلم، هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين، قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس، آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس.. القرمزي يسيل، دم أم نار؟
غليوني يشتعل، الأسود والأبيض يُلونان الحياة بالرمادى، للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تتسرب. للرماد طعم مُرٌ بالعادة نألفه ثم ندمنه؛ كالحياة تماماً، فكلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوجِ اشتعالى.. لكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرة أخرى، لن ينتهِ البؤس أبداً..
وداعاً يا ثيو.. سأغادر نحو الربيع!.

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.