آخر الأخبار

“فريدا كاهلو”.. الرسم تحت تأثير الفجيعة

 

الخرطوم – مصطفى سعيد

تستلقي الفتاة ذات الـ 18ربيعاً على فراشها وتطالع بتمعُّن جسدها المُطِل من خلال مرآة معلَّقة على سقف غرفتها، لا شيء سوى هذا الفراش والمرآة، وذلك الجسد المُنهَك والسكون الذي لا ينتهي. هذه كانت حالة الفتاة المكسيكية (فريدا كاهلو) التي تعرَّضت لحادث مروري أثناء عودتها من دوامها الدراسي في كلية الطب؛ تسبب الحادث في إعاقتها جسدياً حيث أُصيبت بكسور في قفصها الصدري وسلستها الفقرية وعظام حوضها، مما جعلها تظل طريحة الفراش لسنة كاملة، مرت ذلك الوقت على كاهلو مروراً مؤلماً وبطيئاً، إلا أنها تعرَّفت فيه على ذاتها جيِّداً، ورسمت حوالي 150لوحة شخصية (بورتريه).

هل كانت فريدا نرجسية؟

كانت المآسي تتوالى على جسد فريدا، ففي طفولتها أُصيبت بشلل الأطفال الذي تسبب في ضمور ساقها وأثَّر على مشيها، فبالتالي لم تكن طفولتها طبيعية مع باقي الأطفال، وجاء الحادث المروري ليُفاقم عزلتها، ولم تكن للفنانة آنذاك علاقات اجتماعية بل كانت منغلقة على ذاتها.

كثيرون يصِفون كاهلو بالنرجسية لأنها لم ترسم إلا ذاتها، ولكنها ردت على ذلك بقولها: ”أرسم نفسي لأنني أعرفها جيداً“!

وكما هو الحال في كتابة السيرة؛ فإن فريدا قامت باستعراض سيرتها الذاتية عبر رسمها لذاتها، ووثَّقت للمحطات الفارقة في حياتها عبر الريشة واللون.

الرسم تحت تأثير الفجيعة

من أشهر المقولات التي ارتبطت بالإبداع مقولة (المعاناة تولِّد الابداع)، وقد انطبقت هذه المقولة مع تجربة فريدا كاهلو التي كانت الفجائع ملهمةً لها، حيث حوَّلت كل عذاباتها إلى طاقة فنية هائلة.

الفنان عندما يُمارس فنه الذي تحُرِّضه عليه دوافع ذاتية قوية، بلا شك لا تكون الممارسة غاية في ذاتها بقدر ما تكون رغبته في التعبير عن ما يعتمل في داخله، يكون ذلك الإحساس أشبه بسجين محبوس في زنزانة ضيقة ويتوق لمعانقة الحرية، الحرية التي تقف وراء باب هذه الزنزانة، فيُقرر هذا السجين كسر الباب لينعتق وينال حريته. هكذا هو الفنان؛ بمجرد ما أن يضيق جسده بأحاسيسه ينهمر فنه صادقاً وجميلاً.

رسمت فريدا تحت تأثير مآسيها حيث كانت الفجيعة في لوحاتها عبارة عن فتاة ذات حاجبين كثيفين مقرونين، تقف واجمة أو متمددة على سرير وتحيط بها كثير من الكوابيس والأحلام والآلام وبعضاً من الآمال.

ما بين السريالية والواقع

يُصنِّف الكثير من النقَّاد تجربة فريدا كاهلو الفنية بأنها تنتمي للمدرسة السريالية، وذلك لما تحويه هذه لوحاتها من مشاهد ورؤى أشبه بمشاهد الأحلام والكوابيس، وهو ما ارتكز عليه السرياليون في أعمالهم، إلا أن فريدا ترفض هذا التصنيف وتقول إنها لم ترسم أحلاماً ولا كوابيس قط؛ وإنما ما رسمته كان هو الواقع الحقيقي بالنسبة لها.

تراكُمات المرض والفجائع التي مرَّت عليها كانت أشبه بكابوس عظيم لا ينتهي، ولا غرابة في وصفها لأعمالها بأنها جاءت من صميم واقعها المُعاش، ولا غرابة في أن يختلط حابل الواقع بنابل السريالية بالنسبة لها، فالأشياء كانت تظهر أمام عينيها بشكل ضبابي مُقيت، تتلاشى الحدود الفاصلة بين مملكتي الخيال والحقيقة، لذلك يمكن أن نصف تجربتها بأنها مزيج صادق بين الواقع الخيال.

دييغو ريفيرا

تقول فريدا إن في حياتها حادثتين مروعتين، الأولى الحادث المروري الذي تعرَّضت له، والثانية زواجها من دييغو ريفيرا!

وقد كان ريفيرا فناناً أيضاً وقد تبنَّى موهبة فريدا، وأعجبت به فريدا وتزوجا؛ بالرغم من فارق السن الذي بينهما، فعندما تزوجا كانت كاهلو في سن الـ 33، أما دييغو فقد بلغ الـ 43، وبعد الزواج ساءت العلاقة بينهما نسبةً لخيانات دييغو المتكررة، وللإزدواجية الجنسية التي كانت تمر بها فريدا، مما جعلهما ينفصلان، إلا أنهما رجعا لبعضهما في العام 1940بعد أن عرض عليها دييغو الزواج مرة أخرى وهي في المستشفى فقبلت.

الفريدتان

في إحدى لوحاتها، رسمت فريدا كاهلو لوحة شخصية بها شخصيتين منسوختين بوجهها، وتظهر واحدة من الفريدتان تحمل مقصاً قد قطعت به للتو وريداً كان متصلاً بقلبي الشخصيتين، وأُسميت هذه اللوحة بـ (الفريدتان). تُفسِّر فريدا هذه اللوحة بأنها تُجسّد ذاتها مع واحدة من صديقات الطفولة الخيالية، إلا أنها اعترفت لاحقاً بأنها عندما انفصلت من دييغو أصابها الإحباط وعبَّرت عن حالتها آنذاك بهذه اللوحة.

حلم الأمومة

“الرسم أكمل حياتي؛ فقدت ثلاث أطفال وباقة من الأشياء الأخرى التي كانت لتزين حياتي المريعة، شغلت لوحاتي مكان كل هذه الأشياء”، هذه الرسالة التي كتبتها كاهلو لخّصت فيها ما يعنيه لها الرسم، فمشاكلها الصحية أفشلت مشروع أمومتها التي كانت دائماً ما تتأسى عليه، إلا أن الرسم قد حلَّ محل هذ الأمومة وكان عِوضاً لما فقدته خلال حياتها.

ولكاهلو لوحة تجسِّد فيها ذاتها وهي مستلقية على فراشها، وتخرج منها ستة حبال سِريَّة؛ يمتد الأول ليتصل بطفل سابح في الجو، والثاني يمتد ويتصل بتشريح لظهر مكسور، أما الحبل الثالث فيتصل بحلزون يسبح فوق رأسها، والرابع متصل بهيكل عظمي لحوض ترمز فيه لحوضها المكسور، أما الحبل الخامس فيتصل بزهرة ذابلة ملقاة على الأرض، والحبل السادس تتصل نهايته بآلة ميكانيكية، وفي هذه اللوحة يظهر وجه فريدا، وهو بائس حزين وهناك دمعة تنحدر من عينها؛ ودماء وردية أسفل ظهرها، وكأنها تكشف عن حادثة إجهاض جنينها الذي أُجهض معه حلمها بأن تكون أماً.

قالوا عنها

يُعدُّ الفنان بابلو بيكاسو من أميز فناني العصر الحديث، ومن رواد المدرسة التكعيبية، وقد قال عن أعمال فريدا كاهلو مخاطباً زوجها دييغو ريفيرا: “لا أنا ولا أنت بمقدورنا تجسيد البورترية كما تفعل فريدا”.

أمّا دييغو ريفيرا نفسه، فقد وصف إنتاج فريدا كاهلو الفني بـ “المحبوب والرائع والمبتسم والقاسي مثل الحياة”!

وتحدَّث عن معاناة فريدا أحد أهم روائيي أمريكا اللاتينية (كارلوس فونتس)، قائلاً: 
”لا أحد من فناني القرن العشرين ناله الألم مثلما نال من فريدا”.

وفي عام 1997 قامت الفنانة العراقية عشتار ياسين بتقديم مسرحية في مدينة كوبنهاغن بعنوان (شجرة الأمل)، تناولت فيها حياة فريدا كاهلو المفعمة بالإصرار والمقاومة وتحدي الإعاقة، وكانت قد افتتحت عرض مسرحيتها بأبيات شعرية تقول:

فاكهة وأشجار

ضوء ودموع وفقراء

وفريدا كاهلو

مثل فراشة مكسورة ومحطمة

مثل دموع في بحر

دموع في أي طريق

من يقول إن ضربات الفرشاة ستظل خالدة

لكني سأعمل بأقصى طاقتي

لكي أتجاوز عالمي هذا

وداعاً أيتها الفجائع

أصيب فريدا في أواخر أيامها بالغرغرينة، مما جعل الأطباء يقررون بتر قدمها، وقبل موتها كتبت: ”أريد أن يكون خروجي من الحياة ممتعاً وأن لا أرجع إليها أبداً“، وكأنها في تلك اللحظة تتمنى أن تغادر قسوة الحياة، لكنها تخشى رهاب تجربة هذه المآسي مجدداً. رحلت فريدا لتُنهي حياة ذلك الجسد الملئ بالمرض والغرائبية في العام 1954مودّعاً الفجائع ومخلداً مآسيه بـ150 لوحة.

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.