آخر الأخبار

الروائي عبدالغني كرم الله يكتب: حكايات نيرفانا

(1)

مقدمة:

أذكر انني عدت للوطن بعد غياب طويل، جرى ما جرى تحت الجسر في بلادي، يكفى رحيل أمي، وغرق عباس ابن خالي، وتلكم التحولات الاجتماعية والتبدلات السياسية، التي صبغت نبض البلاد كلها، فلا الخيام هي الخيام، وأرى نساء الحي غير نسائها.

كان التحدي الكبير، العظيم، كيف أهضم هذه التحولات، وأعيش في قلب الحاضر، الهائج، المائج، المتحول، بعد سنوات الغياب.

تأملت، قرأت، هنا، وهناك، فلم أحس بحرارة العيش، وفهم ما جرى من تبدل، وخاصة فهم الشباب الذي عاش ونبت في واقع كنت بعيد عنه.

حتى قيض الله لي أن أقرأ بعض مجموعات قصصية، وروايات للشباب، فزجت بي بكل لطف وحرارة في قلب الحدث، وكأن الوطن مطوي تحت لسان الأدب.

ولم لا؟

لا أظن هناك فعل، أو أثر يعطي صورة متكاملة عن الوطن مثل الفنون والأدب، فعيني الادب، عين الفكر، وعين العاطفة، تصبغهم بحدس عجيب، وفراسة، تتوغل حتى أعماق النفوس، التي تصنع الفكرة، ويجسدها الجسد.

شعرت كأن الأدب “وهو كذلك”، هو أشعة اكس، يتوغل بلطف وحب وجراءة لما وراء الضلوع، حيث قلب النبض، أو أوجاع المرض، ويجلوها كشمس في كبد النهار.

عدة قراءات، لشباب وشابات، شعرت بأني أقترب أكثر من قلب الحدث، وبأني أعرف بعض من التحولات التي جرت في بالبلاد، فقد عشت مع أحلام، وتطلعات، وتحديات “وتأزمات”، الشباب، من خلال مملكة الإبداع الكتابي، في أجناس القصة والرواية والخاطرة، وما جرى في هذه العوالم الإبداعية من نبش، و”تشميس”، لخواطر ورغبات جائعة، في قلب الحنين للتعبير، ومن حفريات بمعول النقد لبناء اجتماعي وثقافي وأخلاقي عتيق، ومشوه، وغامض، في زمن التفاسير والشفافية والحلم، بكل شيء، ولكل شيء.

كشأن الأدب، يخلق حميمية بين بني آدم، يكسر غبار الخجل المريض وقبائل الثقافة، لحواء الحب وآدم العشق، حيث الأسرة الواحدة، في بيت الطين “الأرض”، لذا تحن كل الشعوب للحكي، بل غريزة الحكي، حيث الحميمية الخلاقة، التي تربط السيرة بالسريرة المغيبة، “الواضح ما فاضح”، فترى في الأدب صور من السريرة المغيبة، وفض الانفصام النفسي، أثناء القراءة، بينك وبين شخوص الرواية، وبين جموع القراءة، وبينك وبين نفسك، في لحظات صدق، تبحث عنها الحياة منذ رفعت البرعم رأسه، وشرب الضوء.

إذن، الحكايات، كانت هي الجسر لفهم الحياة المعاصرة، ونبضها  المحموم، أكثر من السياسة والفكر وعلم الاجتماع، حيث تغيب بينهم الوحدة العضوية، أما في الأدب، فكلاها في وحدة عضوية، وبناء فني وفكري محكم.

أدب الشباب هو أشعة اكس، هو لقطة لحلم، هو محاولة فهم لطاقات الغد، يحتاج (بل يحتم)، قراءة متأنية، متفرسة، من كل مفكر وسياسي وعالم نفس، كي يسبر هذه الأحلام السمراء، من أين، وإلى أين، وكيف، ولم؟ فمن لا يعرف من أين جاء، لا يدرك إلى أين يمضي، حتى يصبح الإصغاء لها “وليس السماع فقط”، واجب وطني، فهذه الإبداعات هي الحلم، والشكوى، والحيرة، والهموم، وأكثر، أي رسائل العقل الباطني، ورغبات النفس، وتوق الروح.

هذا، ناهيك عن متعة الكتابة (ذاتها)، في نواحي أرواحهم المتوثبة، وعن آلامها أيضا، بل وكربها، ولكن لا محال هي علامة صحة، ولو أظهرت مرضا، أو صنعت أنين،  أو أرسلت برقا خاطفا، أو استغاثة مبطنة.

أيضا، قدرتها في وهب الفن للفن، ونشوة القراءة، كأنها معجزة “تلكم الحكايات”، لا يشغلها شأن عن شأن، تلامس الذات، والأفراد، والمجتمع، معا، في ذات الوقت،  ألم نقل لا يشغلها شأن عن شأن؟ .

(2)

مسابقة نيرفانا

أسابيع، ونحن (لجنة التحكيم الثلاثية، د. حرم، أستاذ الزيواني، الجزائر، وأنا) نتجول في حدائق القلب، وغابات النفس، من خلال حكايات سطرها الشباب المشارك في مسابقة نيرفانا، رحلات تفوق أسفار ابن بطوطة، ولكن في آفاق الروح، وأصقاع النفس.

لو سئلت ماذا جرى في البلاد خلال السنوات الخمس الأخيرة؟ لأجبت بلا تردد، اقرأوء هذه النصوص، وأمثالها لا أكثر، هناك تصوير بديع للبلاد، للمدن، للبيوت، صور تنفذ خلال الحوائظ، والظلام، لنبض الحياة، ومجرى الخواطر، كأن بيدك تلسكوب، ومايكسروب، وسماعة طبيب ماهر، للأصغاء للروح السودانية خلال السنوات الخمس المتضربة الماضية، حكايات تعطي صورة للحلم، والتحدي، والأحزان، وتحث أي سوداني لفهم الأمر، في السيرة والسريرة، وهذا ما نحتاجه، الرؤية الشمولية، كي ينسج الفكر مخرج لهذه الاحلام، وهذه الامراض والأوجاع، أكاد أخون أي سياسي لا يطلع على هذا الأثر الأدبي، الوطني، الروحي، النفسي، الذي يتجلى في الحكايات “ألم تروض الحكايات شهريار؟”، وأحالته لحمل وديع؟ هي أكثر، وأجمل، وأعجب.

كانت الحكايات أكثر من ذلك، كأنها تبارز بألف يد، والف اتجاه، ناهيك عن نشوة القراءة، وحيرة الاطلاع التي تلازم القارئ، ناهيك من ورط في الحكم على هذه الاعمال “أعمال؟ بلى”، ألم يقل سارتر “الكلمات أفعال”؟.

دارت الحكايات عن “الحياة”، المناخ النفسي المعاصر، الطلاق، المخدرات، “حتى التعفيص الجنوني لسيارات التخرج”، الاغتصاب “في اعتصام القيادة”، وخواطر مغتصبة، وشجاعتها “ضحية ومذنبة”، في سماء عرف جاهل”، أو حكايات تراثية، أو الزواج القسري، أو الهجرة وتحديات “السمبك”، أو زواج فتاة غير عذراء، ناهيك عن التنمر، وعشق الوطن، وخواطر الروح، أي كانت المشاركات “حديقة كبرى”، ومزج رائع بين الفكر والعاطفة، يترك أثر في النفس لا محال، ويثير الفكر، والحس معا، كشأن الأدب.

تحس بتطور السرد، والحالة السردية في البلاد، مع اتساع الجمهور النسائي، وخروج مارد للعلن، عبر سيوف الحروف، والتعبير والحلم.

كان التحدي الأكبر، هو الاختيار الأخير، مجرد ثلاث حكايات، من كم هائل من الإبداع، والجمال، ولكن قدر الله واقع، بين أجناس تتقارب، أحسها كلها فائزة، مجرد الكتابة “هي جائزة”، ومشاركة في الإمتاع والمؤانسة بين الكاتب وأهله من القراء، لقد تقاربت في مقايس اللجنة، من ضروب الجدة، والجمال والأسلوب والمبادرة، والتجريب.

بصدق أهنئ كل من شارك، وتامل، وكتب، تلكم هي النشوة التي لا تضارع، أو توصف، “حالة الكتابة”.

شكرا أيها الشباب، السرد بخير في بلادي.

شكرا نيرفانا، لتشجيع الحكي، ألم تقل علوية صبح “احكوا، تصحوا”.

فعلا..

ديسمبر 2022

 

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.