آخر الأخبار

عن العدالة الانتقالية ما بعد الاتفاق الإطاري

كتب: نورالدين صلاح الدين
هذه الورقة تعبر عن الأفكار والتصورات الشخصية لصاحبها عن القضية موضوع النقاش، ولا تعبر بأي حال من الأحوال عن أي منظومة سياسية أو تحالف سياسي ما، وهي بمثابة محاولة لإثراء الفضاء السياسي العام ببعض الأفكار حول واحدة من أهم القضايا التي هي محط اهتمامه لا سيما في فترة ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري.

مقدمة:
أضحت العدالة الانتقالية استحقاقاً دستورياً للسودانيين عندما تم تضمنيها في الوثيقة الدستورية المنقلب عليها بتاريخ 25 أكتوبر 2021 م وتعديلاتها بناءً على إتفاق جوبا لسلام السودان، لذلك كان لزاما على الحكومة الانتقالية المحلولة بأمر الانقلاب إنزالها على واقع السودان وذلك بالبدء بصياغة ” قانون مفوضية العدالة الإنتقالية – قانون العدالة الانتقالية “، إلا أن هذه الإجراءات قد شابها البطء الشديد إلى أن حدث إنقلاب 25 اكتوبر 2021 م، والذى دفع بعض الأصوات الفاعلة والمؤثرة فى المشهد السودانى للحديث عن “مصالحة وعفو” تجاوزا لكل عمليات وإجراءات العدالة الانتقالية، وغياب تام لدور الضحايا، الذين يعتبرون “محور العدالة الإنتقالية في السودان ” مع إستمرار الإنتهاكات الجسيمة للحقوق الانسان واستداركا لهذا الواقع أحاول أن أطرح هنا بعض الخطوات اللازمة لتأسيس عدالة إنتقالية تحقق المصالحة السودانية، وتكون وفق الترتيب التالى.

أولا: كشف الحقيقة “لجان الحقيقة “

كشف حقيقة الانتهاكات التى حدثت للسودانيين تعتبر أولى ركائز العدالة الانتقالية لذلك يجب تشكيل لجنة لكشف الحقيقة للبحث عن حقائق مشتركة حول الانتهاكات السابقة وأشكال العنف، ولا بد من تمكين تلك اللجنة من جمع الإفادات من الضحايا والشهود وإجراء الأبحاث ووضع نظام وطني فعال للتوثيق وإقامة الجلسات العلنية وإشراك السودانيين فى عمليات الحوار والتشاور وتوظيف كافة الآليات الأخرى للتثبت من الحقائق المتعلقة بالانتهاكات الحادثة للقانون السوداني، ولحقوق الإنسان والقوانين الدولية التى ترعاها، ومن ثم إتاحة تلك الحقائق للشعب السودانى.. لا بد أن تكون لجنة كشف الحقيقة خاضعة للإشراف المباشر للمفوضية القومية للعدالة الانتقالية.

عليه حتى تتمكن لجنة كشف الحقيقة من أداء مهامها يجب أن تمنح سلطات واسعة تتضمن كحد أدنى السلطات الأتية:-
1- التحقيق في كل الانتهاكات بجميع الوسائل والآليات التى تراها ضرورية مع ضمان حقوق الدفاع.
2- استدعاء كل شخص ترى فائدة سماع شهادته أو التحقيق معه ولا تجوز مجابهتها بالحصانة.
3- اتخاذ كافة السبل لحماية الشهود والضحايا والخبراء .
4- الاستعانة بالشرطة لتنفيذ مهامها المتصلة بالتقصى والتحقيق والحماية.
5- مطالبة السلطة القضائية والنيابة العامة أو أي شخص طبيعي أو معنوي بمدها بالوثائق والمعلومات التي بحوزتهم.
6- طلب معلومات من جهات رسمية أجنبية ومنظمات أجنبية ومنظمات أجنبية غير حكومية طبق المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة.
عندما تنتهي اللجنة من مهامها تقوم بنشر تقاريرها واللجان التابعة لها في الجريدة الرسمية وتحرص اللجنة على نشر النتائج وتوزيعها على أوسع نطاق ممكن في أجهزة الإعلام.

السياقات ما قبل الاتفاق الإطاري
هل اللجان التي تم النص عليها في اتفاق 21 نوفبر ما بين ” البرهان -حمدوك ” والتي تم إنشاؤها بواسطة رئيس الوزراء والنائب العام سابقاً وهل كل اللجان التي شكلت حول قضايا جنائية خلال الفترة الانتقالية ما قبل انقلاب 25 أكتوبر تعتبر لجان حقيقة؟
الإجابة “لا ” لأن تلك اللجان لجان تحقيقات قضائية، حيث تحدد المسؤولية الجنائية الفردية لقضايا محددة، تستخدم فقط المعايير المعتمدة في قوانين الإجراءات الجنائية والاثبات التي تطبق في المحاكم.
إن لجان الحقيقة التي نقصدها كان يجب أن تسبق أو تكمل عمل لجان التحقيق القضائية وعمل محاكم القانون في حال تم جمع أدلة أو بينات إثبات مفيدة في التحقيقات الجنائية، ولا يمكن معرفة الحقيقة من عمل المحاكم الجنائية، لأن محاكم القانون تركز على وقائع خاصة بقضية فردية بالاعتماد على الأدلة المباشرة، بينما تكمل لجان الحقيقة هذا المنهج من خلال إثبات السياق الاجتماعي والتاريخي للإنتهاكات وتبيان الأنماط الواسعة النطاق الكامنة وراء هذا العدد الكبير من القضايا.
يساعد التحليل الذي تقدمه هذه اللجان في فهم خلفّيات حالات الانتهاكات والإستراتيجية التي تحكمها، مما يساعد في تحديد المسؤولية الأخلاقية أو السياسية أولاً ثم المسئولية القانونية.
عليه اقترح تشكيل لجان للحقائق الغرض منها:
1- القيام بإجراء تقصٍّ وصفي للحقائق، والذي يتضمن إعادة بناء شامل للأحداث والظروف المحيطة، بمشاركة مختلف الأطراف، يراعي السياقات التاريخية والمؤسسية والثقافية للإساءات الماضية من إثبات الحقيقة حول الجرائم والأحداث وتحديد الأشخاص والمجموعات المسؤولين عن الجرائم، وأسباب الانتهاكات، والتفسير التاريخي.
2- حماية حقوق الضحايا والاعتراف بها واستعادتها ،ووضع مقترحات قانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية وتعليمية لجبر الضحايا وأفراد أسرهم وكرامتهم.
3- المساهمة في المصالحة الوطنية الشاملة، وتشجيع العدالة التصالحية وتعزيز العدالة الاجتماعية، أو اقتراح إصلاحات تشريعية و مؤسسية من شأنها أن تضمن عدم تكرار الإنتهاكات.

ثانيا: الحق فى العدالة – المحاكمات الجنائية
يمثل مبدأ المحاسبة والمساءلة وإقامة الحق فى العدالة عبر المحاكمات الجنائية النقيض لمبدأ الإفلات من العقاب، يحق للضحايا أن يرفعوا قضاياهم للمحاكم ” المحلية و الدولية ” كحقٍ أصيل كفلته العدالة الإنتقالية.
إضافةً لذلك يمكن أن تقدم العدالة الانتقالية نموذج لمحكمة تعرف ” بالمحكمة المتخصصة ” كخيار عملي سيما بعد تأخر البدء فى إجراءات العدالة الانتقالية والتى بدورها ستعمل على إصلاح السلطة القضائية، وتفادى المشكلات الفنية والتشريعية التى ورثها القضاء السوداني، وعليه يأتي تشكيل المحكمة الجنائية المتخصصة على يد السلطة الانتقالية كي تعمل كهيئة قضائية مؤقتة مستقلة تحت السلطة القضائية، ويشمل نطاق ولايتها الرسمى فقط كبار المسؤولين فى نظام الإنقاذ والأمن والشرطة والمؤتمر الوطنى المحلول وكل من انتهك وارتكب جرائم بحق السودانيين بما في ذلك الجرائم المرتكبة خلال انقلاب 25 أكتوبر 2021 م وما تلاها من انتهاكات، لذلك يجب تحديد اختصاصها الزمني للجرائم التي سوف تحقق المحكمة في ارتكابها منذ 30 يونيو 1989م وحتى تاريخ إنشاء المحكمة.

ثالثا: جبر الضرر ” التعويضات – مادي – معنوي “

التعويض هو حق من حقوق السودانيين الذين وقعوا ضحايا للانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية التى ترعاها، وقد يتخذ التعويض عدة أشكال، ويعتبر التعويض المادي وجهاً واحداً فقط من أوجه التعويض،
هناك مجال واسع من الآليات الأخرى المتوفرة للإقرار بإنتهاكات معينة والاعتذار عنها كطريق نحو الامام ، لكن لا بد أن تقدم برامج التعويض مزيجا من التعويض المادي والامتيازات الرمزية للضحايا والتى تشمل التعويضات المالية (بشكل رواتب تصرف للأرامل والأيتام) ومعاشات تقاعدية وإعفاء من الرسوم المدرسية أو منح دراسية، إلى جانب تقديم الدعم النفسي، وتتضمن الإجراءات الرمزية اعترافا واعتذارا رسميا من مؤسسة السيادة (رأس الدولة) أو رئيس الوزراء باسم المجتمع السوداني عن كافة الأخطاء التى تم ارتكابها بحق الضحايا، بالإضافة إلى مبادرات تخليد الذكرى.

على وجه التحديد يجب أن يشمل التعويض مزيجا من :
1- إعادة الحقوق مثل استرجاع الأراضي .
2- إعادة التأهيل والاعمار للمناطق المتأثرة من الانتهاكات.
3- تحقيق رضا المجتمعات المتأثرة بالانتهاكات وضمان عدم تكرارها.
4- التعويض الفردي والتعويض الجماعي.

رابعا: الإصلاح المؤسسي – عدم التكرار
يعتبر الإصلاح المؤسسي الضامن الأكبر لعدم تكرار حدوث الانتهاكات مستقبلا، ولتحقيق ذلك لابد من تمليك إدارة الإصلاح المؤسسي بمفوضية العدالة الإنتقالية كافة الصلاحيات التى تسمح لها بمراجعة قوانين ولوائح الأجهزة العدلية والأمنية والاعلامية وإقتراح البدائل، وتقديم التوصيات للسلطات التشريعية والتنفيذية، مع ضمان سيادة حكم القانون وإحترام حقوق الإنسان.
ويهدف إصلاح المؤسسات إلى الاعتراف بالضحايا كمواطنين وحاملي حقوق، وإلى بناء الثقة بين المواطنين كافة ومؤسساتهم العامة، لأن إصلاح المؤسسات بدون أية محاولة لتلبية التوقعات المشروعة للضحايا بشأن تحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة والتعويضات، ليس عديم الجدوى فقط، بل من المستبعد أن يفلح فى تحقيق النتائج المرجوة.
ويمكن أن يشكل إصلاح مؤسسات الدولة الضالعة فى انتهاكات حقوق الإنسان أحد تدابير العدالة الانتقالية المهمة التى تروج للمحاسبة وتساعد على تفادي تكرار الانتهاكات.

خامسا: المصالحة
تعتبر المصالحة استحقاقا نهائيا بعد إكمال كافة ركائز العدالة الانتقالية المتمثلة في “كشف الحقيقة – المحاكمات – جبر الضرر – الإصلاح المؤسسي” لذلك فإن الحديث عن مصالحة قبل البدء في الإجراءات السابقة يمكن أن يمهد للإفلات من المحاسبة والمساءلة وضياع حقوق الضحايا.
علينا أن لا نتجاهل أن هناك أعدادا من الضحايا وأسرهم تطالب بإرساء العدالة بشأن الفظائع التي ارتُكبت في الماضي في قاعات المحاكم فقط، بل أن بعضهم يطالب بالقصاص ولا يقبل الدية، جاء ذلك في الثلاثين من يونيو 2020 عندما خرجت جموع مقدرة من السودانيين في ما أسمته بمسيرة تصحيح الثورة؛ وتضمنت المذكرة التي قدمتها جمعية أسر الشهداء لرئيس الوزراء حينها عبدالله حمدوك عددا من المطالب احتلت فيها العدالة الانتقالية والقصاص المرتبة الثانية بعد السلام.
من الصحيح أن هذه المطالبات قد تضعف أو تتغير مع مرور الوقت، لكنها لا تموت، لذلك من الضروري أخذ أمر العدالة الجنائية والجزائية بجدية بتفسيرها وتعريفها، وتقديم نموذج للعدالة الجنائية التي تنوي مؤسسات السلطة الانتقالية المستقبلية القيام بها،  بدلاً من استخدام خطاب “طي صفحة الماضي” الذي سوف يقوض شرعية عملية العدالة الإنتقالية قبل حتى قبل أن تبدأ، ويعطي انطباعا مضللا للضحايا وأسرهم ولكل الشعب السودانى بأن العدالة الإنتقالية “عدالة ناعمة”.
لذلك يجب أن يؤخذ في الحسبان الهدفان التوأمان المتمثلان في المساءلة الفردية (المحاكم) والمصالحة الوطنية على قدمي سواء.
تبدأ المصالحة الوطنية بتكوين لجنة للمصالحة الوطنية الشاملة، تعتمد على القواعد الاجرائية البسيطة القائمة على العرف الأهلي في جلسات الصلح والجودية وتنظر فى الإنتهاكات بصرف النظر عن سقوط الدعوى بالتقادم أو بغيره، ويجوز لها القيام بالمهام الآتية:
1- تلقي الشكاوى والعرائض المتعلقة بالانتهاكات.
2- تنظيم جلسات استماع عمومية خاصة بالضحايا.
3- استدعاء كل شخص ترى فائدة فى سماع شهادته.
4- تحيل للنيابة العامة الملفات التي يثبت لها فيها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

سادسا: اعتذار بدلا من إصرار .. وإقرار عوضا عن انكار
يحق لجميع ضحايا الانتهاكات التي وقعت في السودان الحصول على عدالة ، وإذا كان من الصعب تقديم كل مرتكبي تلك الانتهاكات للعدالة في الوقت الحالي، أو إذا كان مرتكب الانتهاك غير راغب أو قادر على الإقرار بالخطأ وتحمل المسؤولية، يصبح ذلك من مسؤولية الدولة.
بكلماتٍ أخرى، بغض النظر عمن كان مسيطرا على حكومة الدولة وقت الانتهاك، فإن الدولة مسؤولة عن توفير الإنصاف، وهذا يعني أن حكومة السودان ومؤسسات السلطة الانتقالية التي ستتشكل إذا قدر لنا استئناف مسار التحول الديمقراطي ونجاح العملية السياسية الجارية حاليا ملزمة بإصلاح انتهاكات حقوق الإنسان التى حدثت خلال فترة تلك الأنظمة السابقة.
ولا خلاف في أن معظم تلك الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان كانت بسبب مباشر من أجهزة الدولة السودانية مثل القوات المسلحة والأمن والشرطة والدعم السريع، حيث كانت هي سوط الجلاد، أو كانت بسبب غير مباشر عندما لم تقم الدولة السودانية بأجهزتها بإيقاف تلك الانتهاكات التي أرتكبت بواسطة مليشيات خارج سيطرتها بالرغم من استطاعتها أن تلجمها.
يتابع الشعب السوداني بإحباط شديد ذلك الإصرار المدهش من قبل كثير الجناة على الانكار بارتكاب جرائم القتل والتعذيب وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، لذلك فإن الاعتذارات التي تقدمها الدولة ستكون مفيدة بشكل خاص بل وضرورية في الحالات التي يكون فيها اصرار وإنكار لارتكاب إنتهاكات لحقوق الإنسان أو تحمل مسؤولية إصلاح عواقبها، مع الوضع في الاعتبار أن هذا الإنكار لا يضيف إلى معاناة الضحايا فحسب، بل يؤجج غضبهم ويعمق أيضا عدم الثقة فى مؤسسات الدولة المملوكة أصلا للشعب السوداني.

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.