آخر الأخبار

محمد وردي.. بصمة في هموم الجنوب والهامش والثورة والإبداع

كتب: ياسر عرمان يكتب (1) (2)

(1)
هذه المقالة مكرسة لرصد بعض مواقف الأستاذ محمد وردي من قضايا جنوب السودان والهامش والثورة والإبداع من مواقع المعرفة الشخصية والحكي عن إنسان ذو أفضال تدوم ولا تنقضي.
(2)
من نخيل الشمال العالي ومن كل ثمرة جاد بها أتى محمد وردي كأجود ما يكون فارع كالنخلة والنخل سيد الأشجار ووردي سيد المغنيين المبدعين، بسط ظله في كامل إنسان السودان وتجاوزه إلى افريقيا.
في معسكر (اتنغ) لللاجئين في أقاصي غرب أثيوبيا، رأيت عشرات الآلاف من اللاجئين الفقراء والجوعى يخرجون في استقباله عند زيارته للمعسكر وكثير منهم لا يجيد اللغة العربية ولكنهم يطربون لسماع موسيقاه وهي لغة لا تحتاج إلى ترجمة وآتية من أعماق التاريخ.
من أصداء النهر ارتوت ذاكرة وردي الإبداعية من النيل والناس والأرض والتاريخ والحضارات القديمة في جدلية لا نشاز بها.
من سحاب خليل فرح ومن أرض جادت بهما معا أمطر وردي في عبقرية تفاعلت مع الزمان والمكان والثورة وأشعلت قناديل الإبداع في رحلة طويلة ملأت الحياة بالضوء ونيران الخلق الجديد، ما خبأت جذوة إبداعه المليئة بوهج العشق والغرام والحرية والوطن وحصاد الايقاعات من غالب أرض السودان خرجت موسيقاه بهية.
وردي مفكر موسيقي عميق الآثر والصلة بالثقافة والسياسية مضطرب العلاقة بالسلطة راسخ الارتباط بالشعب والشعب ليس بغافل. كان وردي متحدي وقوى الشخصية وشجاع ومنتمي وقيثارة من قيثارات الشعب في أكتوبر وأبريل ولم تخبو نار (تقابته) الفنية بعد رحيله في ديسمبر.

فعلاقة وردي بالثورة لم تكن موسمية وربما يأخذ السودان نصف قرن لاستدعاء نموذج مماثل له.
ساهم محمد وردي في وحدة الوجدان الوطني وهو من أكبر المساهمين في صناعة الوجدان الغرامي، فكم من المحبين كانت أغاني وردي مدخلهم للغرام وهو رأس مال معنوي أجتماعي وثقافي وإبداعي حاضرا ومستقبلا وشمالا وجنوبا في كلا ضفتي السودان.
(3)
الوقت 1990والمكان أديس أبابا، في بدايات ذاك العام الذي سيشهد أحداث جسام في نهايات حكم منقستو هايلي مريم وما أدارك ما منقستو، الأرض والإقطاع والايديولوجيا ونهاية حكم الامبراطور وقضايا القوميات والحروب ضد القوميات وكانت المدينة حافلة بصور وتماثيل ضخمة لفلاديمير لينين وإنجلز، وكارل ماركس أخر أنبياء اليهود كما أطلق عليه البروفسور علي مزروعي في سلسلة تعليقاته عن التاريخ الأفريقي وعن مدينة اديس ابابا ذلك الزمان، وقد احتلت تلك التماثيل والصور أهم ميادين المدينة.
كان صباحاً مشرقا والشمس تأخذ مكانها عوضاً عن الأمطار والسحب، وقد أستمر هطول الأمطار منذ منتصف الليل حتى صباح ذلك اليوم، وقد كنت اهِم بأخذ تاكسي قديم قدم الحرب العالمية الثانية قد أشتهرت به أديس أبابا، من أمام فندق (واشبيلي) في حي مكسيكو أحد أحياء أديس أبابا القديمة حيث كنت أقطن على بعد خمسمائة متر من الفندق مع رفاقي، وقد رحل بعضهم وغادروا الحياة، منهم مرحوم دوت كات وشاو مايول جوك شاو وباولينو بتيا وموكي بتالي وميري جيمس واتيم ياك اتيم. وقد كان ( واشبيلي) أحد فنادق الدرجة الرابعة وهو مسمى على أحد الأنهار الاثيوبية.
كنت حينها في حوالي الثامنة والعشرين من عمري فتي الأحلام والصبا، في ذلك اليوم كنت في طريقي لمكتب الحركة الشعبية لتحرير السودان في عمارة السوبر ماركت التي تقع في الاتجاه المعاكس لفندق الهيلتون اديس ابابا أهم فندق وقتها في المدينة التي تغيرت ملامحها الآن بعد أن اكتسحها اقتصاد السوق الحر، وفندق الهيلتون من عهد الامبراطور هايلي سلاسي يقع في قلب المدنية يجاوره مكتب الحركة الشعبية في منطقة (كاسنجس) المزدحمة بالفقراء وبيوتهم واللذين سيكتب لهم سفر الخروج في السنوات الآتية فلاحد يرغب بالفقراء في قلب المدينة، فهم من هامش المدينة واليها يرجعون ووجودهم مؤقت في قلب المدينة، هذا ما جرى لحي (هارلم) في نيويورك (وبركستون) في لندن وبعض أحياء الخرطوم القديمة ولا عزاء للفقراء والطبقة الوسطى بل نضال وكد وكدح وشعارات سامقة قد لا تحصد زرعا في كل الأوقات.
كنت في طريقي لمناقشه قضية متعلقة بالأستاذ محمد وردي، حينما وصلت لمكتب الحركة الشعبية الشهير وصعدت الدرج كان المكتب يعج ويضج بالمحاربين الشباب ومعاقي الحرب الذين فقدوا بعض أطرافهم ويستندون على عصي وأمالهم الشابة معلقة في نهاية الحرب، ولا يخلو المكتب يوماً من الدبلوماسيين وضباط وقادة الجيش الشعبي القادمين من جبهات القتال للعلاج أو لمزيد من التدريب أو أسباب أسرية أو مهام خارجية.
اتجهت لمكتب القائد مارتن مانجيل لمناقشة فكرة هامة متعلقة بالأستاذ محمد وردي وسبق أن طرحتها على الدكتور عزالدين علي عامر والأستاذ التجاني الطيب بابكر لاحقاً.
طرقت الباب واستقبلني مارتن مانجيل بترحاب وابتسامة عريضة كعادته وهو ضابط سابق بالقوات المسلحة السودانية برتبة مقدم، ومن القلائل الذين خرجوا مع قواتهم وانضموا للحركة الشعبية بعد تأسيسها في جنوب السودان وقد انشق من القوات المسلحة في منطقة كاجوكاجي في غرب الاستوائية وتم تعينه كقائد مناوب في المجلس القيادي الأعلى للحركة الشعبية وهو من منطقة قوقريال في بحر الغزال وكان مهتماً بمناقشة القضايا السياسية على عكس الكثير من زملائه من الضباط السابقين في القوات المسلحة، قد كان مارتن يتابع أوضاع السياسة في الخرطوم ويحاول ربطها بما يجري في مسرح عمليات الحرب ويدرك أهمية الأستاذ محمد وردي وقد تولى مارتن لفترة قصيرة العمل في مكتب الحركة في اديس ابابا، أهم مكتب للعمل الدبلوماسي والإنساني للحركة الشعبية وهي في قمة حيويتها وفي أهم عاصمة بلد داعم لها دولة أثيوبيا وفي عهد منقستو أهم داعم عسكري ودبلوماسي للحركة وقتها، وقد كان برنامج الحركة الشعبية من ضمن عدة برامج لحركات التحرر الوطني معظمها من الجنوب الأفريقي كالمؤتمر الوطني لجنوب افريقيا وزمبابوي وناميبيا وانقولا وموزمبيق التي دعمها منقستو منذ بداية حكمه، وقد تحررت بعض تلك البلدان في ذلك الوقت، كان الاسم السري لبرنامج الحركة الشعبية (صفر – ٧) (زيرو سبعات) باللغة الأمهرية، وهي كلمة المرور في كل الأراضي الاثيوبية، شرحت لمارتن ما أتيت من أجله حول محمد وردي وفاجأني رد فعله وإجابته…
(4)
من قال لك أن القرية لا يمكن أن تصعد إلى قمة جبل المدينة وتشبعها ابداعاً! فان ذلك ممكن بفعل العملاق محمد وردي فهو ممثل حقيقي للقرية البعيدة ومشكل للوجدان الغرامي للمدينة وللطبقة الوسطى ولجمهرة المتعلمين ولصناع الثورات في سنوات ماضية وأخرى قادمة وشرارة الأبداع التي أطلقها تضئ بلا توقف قبل وبعد رحيله، ويظل وردي وجه للقرية وأحد أنوار المدنية، وردي لم يترك الريف خلفه بل حمله إلى أضواء المدينة، إذ ظل الريف تحت جلد المدينة التي اشعلها وردي غراماً وثورة.
تنقل وردي كفراشات الورود الجميلة من غناء المحبوب، وفي القمة أشعار الباذخ إسماعيل حسن ود حد الزين الذي حول وردي بعض أشعاره العادية العذبة إلى أساطير ساحرة وأنتقل إلى محطات الوطن والحبيبة ونضال الشعب العصي على الانكسار وفي القمة الأخرى ثنائيته المبدعة مع محجوب شريف ود مريم العامرة حنية، والعود خاتي الشق ما قال وحاتك طق، وهو يؤذن في الناس ليصحو من أجل الثورة وأصحى فك الريق هتاف واوعك تخاف، إن اللذين حبو أنفسهم ضيعوك، غني يا خرطوم غني شدي اوتار المغني.
في مشواره الطويل يجلس على قائمة شركائه الكبار صلاح أحمد ابراهيم وعمر الطيب الدوش ومحمد عثمان كجراي وإسحاق الحلنقي ومبارك بشير ومحمد مفتاح رجب الفيتوري وتاج السر الحسن والطاهر إبراهيم وعبد الواحد عبدالله ومحمد علي أبو قطاطي وابو امنة حامد ومرسي صالح سراج وصديق مدثر والتجاني سعيد وصلاح حاج سعيد وعبد الكافي والمكاشفي بخيت وسرب طويل من الأشقياء المبدعين، لقد تمكن وردي من تشكيل وجدان الثورة والغرام والوطن ونادراً ما تربع مبدع واحد على قمتي الوطن والغرام كما فعل وردي.
(5)
في مدينة بورتسودان دخل عازف الكمان المشهور محمديه قبل شهرته بزمن، في كواليس المسرح وأخد يعزف ست الحبابيب لفائزة أحمد بجماليات عالية، التقطت اذن وردي المرهفة تلك الجماليات فالتفت اليه وقال له: ( انت بتعزف كمنجة كويس تعال الخرطوم). هناك كان محمديه يدخل السينما الدور الأول والثاني في بورتسودان ويتحين مناسبات الفنانين الكبار أمثال أحمد المصطفى ومحمد وردي، كان محمديه ماهراً في كرة القدم وانتقل بنفس المهارة إلى عزف الكمان، في كرة القدم كان ينافس الطاهر حسيب وأخذ آلة الكمان من لاعب الهلال مدني محمد طاهر وسرعان ما أصبح من العازفين الكبار في مصاف الخواض وعبدالله عربي وعبدالفتاح الله جابو وعلي ميرغني وحسن ضرار واحمد بريس، وقال وردي في أحدى لقاءاته مع الأستاذ عبد الكريم الكابلي: أن محمديه وعربي أعظم عازفي الصولات، وعلى عكس الصورة التي حاول البعض أن يرسمها له فإن وردي يعترف بافضال الآخرين وقد كان لمحمد وردي دور في جذب العازف الكبير محمديه وقد كان يهتم بالعازفين ولاحظت ذلك عن قرب حينما رافقته إلى معسكرات اللاجئين في جنوب السودان وعلاقته الحميمة مع الراحل عبد العزيز عصفور، ومن المصادفات انني التقيت عبدالعزيز عصفور حينما تم اعتقالي للمرة الأولى أيام جعفر نميري عام ١٩٨٢ في زنازين الانتظار ، كذلك علاقة وردي مع عبدالرحمن عبدالله وعبدالهادي وحمودة وعمر وحمد أسماعيل اللذين رافقوه في تلك الرحلة إلى معسكرات اللاجئين. قال محمديه في انتباه ذكية في مقارنة بين الموسيقى السودانية والموسيقى العربية: إن مستقبل الموسيقى والفن في السودان سيتفوق على كل الدول العربية وان المستقبل سيثبت ذلك، ما قاله محمديه يستند على التنوع الثقافي والتاريخي في السودان وهم مصدران عظيمان للايقاعات والالحان والتفرد الموسيقي اللذي يحظى به السودان. ويظل وردي صاحب أكبر قائمة غناء وطني سيما الاكتوبريات فهو مغني الثورات الأول من أكتوبر وأبريل وحتى ديسمبر فهو مايزال مواكب ومعاصر رغم رحيله، ساهمت الموسيقى في ربط الوجدان السوداني بأكثر مما فعلت السياسة.
(6)
في 9 يوليو 2011 وفي جوبا وفي الحفل المسائي المقام على شرف استقلال دولة جنوب السودان وقد كنت أجلس في طاولة في معية الأمام الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي وقد طلب مني الأمام الصادق المهدي بأن أطلب من الأستاذ وردي المجئ والمشاركة في الحفل بعد أن سأل عن أسباب غيابه وكنت قد وجهت الدعوة للأستاذ محمد وردي للمجيء لجوبا والمشاركة في تلك المناسبة، أبلغته أن الأستاذ وردي يشعر باحباط شديد لما حدث لوحدة السودان ولا يريد أن يأتي للمشاركة في الحفل، وكان هناك وجود كثيف لعدد من ممثلي بلدان الجوار ومن افريقيا والعالم العربي والبلدان الغربية خاصة الولايات المتحدة واوربا. طلبت من الصديق جميس لوال أن يذهب إلى مكان أقامة محمد وردي ويطلب منه بإسم الرئيس سيلفاكير أن يأتي للمشاركة، وحينما حضر الأستاذ وردي أشعل الحفل وتتالت المفاجأت، فوردي الذي كان يحظى بحب واسع في جنوب السودان واتفق على عبقريته ومحبته عبد الخالق محجوب وجون قرنق والصادق المهدي وحسن الترابي، وتنبأ له في بداياته خضر حمد وعبد الماجد ابوحسبو بمستقبل عظيم.
إن سحر وردي لا يقاوم فهو يكاد أن يكون فوق السياسة والأيديولوجيا وتناقضات تاريخنا الحديث شمالا وجنوبا بالرغم من استحالة ذلك لكنه يظل رابط وقاسم مشترك.
من قبل وردي لم يكن الفنانيين الكبار يذهبون للتضامن والترويح عن اللاجئين وخاصة لاجئ جنوب السودان، فهو قدم نموذجاً مغايراً في ذلك. في أمسية 9 يوليو 2011 في جوبا تلك الأمسية الحزينة المفرحة في آن واحد والتي تفاعل فيها الجمهور مع وردي كما لم يحدث من قبل تفاعلاً وانفعالا تاريخيا، تقدم بعض الجنوبيين بطلب يخص الأستاذ محمد وردي وأخر يخص اخر علم سوداني رفرف في سماء جنوب السودان في ذلك اليوم قبل أن يستبدل بعلم الدولة الوليدة، كان ذلك الطلب يؤكد المكانة السامقة التي احتلها محمد وردي في نفوس الجنوبيين…

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.