آخر الأخبار

صالح عمار يكتب: مائدة الموز والوثبة المستديرة.. عندما لا نتعلم من التاريخ

 

صالح عمار

وزعت الآلية الثلاثية (المكونة من ممثلين للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد) الدعوات إلى عشر مجموعات سودانية للجلوس إلى مائدة حوار مباشر يوم الأربعاء المقبل (8 يونيو 2022) بغرض الوصول إلى حل للأزمة السودانية.

والمجموعات التي تم تقديم الدعوة إليها تحمل أربع منها اسم الحرية والتغيير، وهي (المجلس المركزي والميثاق الوطني والقوى الوطنية وتيار الوسط)، بجانب تجمع المهنيين وأحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي والمؤتمر الشعبي وتحالف الحراك الوطني، والمكون العسكري.

والمؤكد وفق الشروط التي أعلنت عنها للقبول بالحوار مع العسكريين ولم تتحقق، فإن قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) سترفض المشاركة في المائدة المستديرة وكما أن حليفها (تجمع المهنيين) والذي قاد ثورة ديسمبر (2019) منذ وقت مبكر لاندلاعها سيتخذ نفس الموقف المقاطع للحوار فيما لم يحسم حزب الأمة موقفه حتى اللحظة.

ويضم تحالف (الحرية والتغيير) عدد (43) من القوى السياسية والمنظمات التي وقعت إعلانه السياسي في سبتمبر 2021 وأبرزها التجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني والبعث.

والمجموعات السبع الأخرى التي ستستجيب لدعوة الآلية الثلاثية، تشمل حزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الراحل حسن الترابي قائد حركة الإخوان المسلمين والمدبر الأول لانقلاب الإنقاذ (1989) والاتحادي الأصل الذي شارك ضمن حكومات الرئيس المخلوع عمر البشير ما بين الأعوام (2006 – 2019) وتحالف (الحراك الوطني) الذي تم الإعلان عنه في ديسمبر 2021 ويضم أحزاباً صغيرة وشخصيات، انخرطت في نظام البشير، وتقلدت ضمنه مواقع رفيعة، ومنها التجاني السيسي مساعد الرئيس المخلوع عمر البشير لثماني سنوات وأحمد بلال وبشارة جمعة أرو اللذان توليا وزارتي الإعلام والداخلية بالتبادل وعبدالله مسار الوزير السابق في نظام البشير وموسى محمد أحمد مساعد البشير وآخرون. وتشمل مجموعة السبع التي ستُشارك في المائدة المستديرة كذلك الحرية والتغيير (الميثاق الوطني) والتي تأسست عشية انقلاب (25 أكتوبر 2021)، وشاركت بفعالية في التدبير له، وهي مكونة في الأساس من قادة الحركات المسلحة الذين وقعوا اتفاقات مع الحكومة في العام 2020 بعاصمة جنوب السودان (جوبا)، وهُناك أيضاً مجموعة أخرى تحمل اسم (القوى الوطنية) كانت قد أعلنت عن تحالفها في فبراير الماضي بعد فصل أعضائها من الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بتهمة مساندة الانقلاب، وأيضا (تيار الوسط) وهي مجموعة انشق أغلب أعضائها عن حزب المؤتمر السوداني، والمُثير للاستفهام أن تيار الوسط يحتفظ بعضويته في الحرية والتغيير (المجلس المركزي) حتى اللحظة، ويُشارك ممثله في اجتماعات التحالف، ولهذا فمن المستغرب أن يكون طرفاً منفصلاً يتساوى مع تحالف مثل (المجلس المركزي)، ونفس الوضع ينطبق على حزب الأمة الذي هو من أكبر أحزاب الحرية والتغيير (المجلس المركزي) منذ تأسيسه، ومع ذلك تمت دعوته كطرف منفصل!

وبهذه الكيفية، أي بدعوة وحشد الموالين لنظام البشير وتقسيم التحالفات المدنية وبضمان مقاعد لمجموعات صغيرة لتتساوى مع تحالفات أكبر منها تكون الآلية الثلاثية قد وضعت نفسها في خانة من يُقدم خدمة للطرف المستفيد، وهو المكون العسكري الذي يعتبر تقسيم المدنيين هوايته المفضلة واستراتيجيته المرادفة للعنف!

والمتتبع لتصريحات العسكريين في الآونة الأخيرة والمتحمسة للانخراط في الحوار – مع أنهم كانوا ضده حتى قبل وقت قصير – يصل إلى قناعة أنهم قد مهدوا الملعب جيداً ليخدم خطة لعبهم!

فما الذي جرى خلف الكواليس خلال الفترة الماضية حتى تحول موقف العسكريين من الرفض إلى القبول؟

وللتذكير فقد وجه قائد الانقلاب، الجنرال عبد الفتاح البرهان في الأول من أبريل الماضي، وهو يتحدث أمام جنوده تهديداً مباشراً للسيد ممثل الامين العام للأمم المتحدة فولكر بيرتس بالطرد من السودان متهماً إياه بـ “التدخل” في شؤون البلاد و”تجاوز صلاحيات تفويضه”. ولكن بدلاً من أن يتم طرد فولكر أجبرت السلطة العسكرية مستشارته البريطانية السفيرة روزالند مارسدن التي مثلت بلادها والاتحاد الأوروبي في السودان بمغادرة البلاد بعد رفض التجديد لها، والذي لا يحتاج إلى تفسير أن السبب يعود إلى معرفتها العميقة وعلاقاتها بالسودانيين والتي ستقف عائقاً أمام تمرير مخططات تخدم الاطراف على حساب بعضها. وفي السياق ذاته، رعى العسكريون تجمعات نظمها متطرفون إسلاميون ضد البعثة الدولية كانت تتظاهر ضد ما تسميه “التدخلات الأجنبية”، وتؤكد دعمها للفريق عبدالفتاح البرهان، ووصلت التهديدات سقف إغلاق أجزاء مهمة من السودان تشمل الموانئ ومنع مرور الواردات بصفة دائمة “إن استمر فولكر في تحركاته”.

وتصلح هذه الأحداث تفسيراً للمواقف المتراجعة للبعثة الدولية (يونتامس) عن دعم الخيار المدني الذي يُمكن تلمس بعض مظاهره أيضاً في الإحاطة الأخيرة للسيد فولكر أمام مجلس الأمن (24 مايو).

ولم تُوجه الآلية الثلاثية الدعوة إلى لجان المقاومة والتنظيمات الثورية والشبابية والنسوية – التي تقود الحراك المستمر ضد الانقلاب – للمشاركة في المائدة المستديرة. والغالب أن السبب في ذلك يعود إلى استنتاج الآلية، وبعد المشاورات التي أجرتها مع هذه التنظيمات أنها سترفض المشاركة في الحوار مع العسكريين، وتطلب فقط تسليم السلطة إلى المدنيين فوراً، وفي ظل غياب الحرية والتغيير وتجمع المهنيين المتوقع. فالنتيجة، إن الشارع المقاوم للانقلاب لن يجد نفسه مُمثَلاً على طاولة المفاوضات.

وسينظر الشباب الذين يحتلون الشوارع الآن إلى العملية برُمتها باعتبارها حواراً بين الموالين للانقلاب. ومواقف الشباب الجذرية ضد العسكريين لها ما يبررها من التاريخ القريب الملطخ بدمائهم، فقادة الانقلاب العسكري كانوا جزءاً من نظام البشير واشتركوا في حروب الإبادة بدارفور وجبال النوبة ومناطق السودان الأخرى، وهناك شُبهات قوية بتورطهم في الانتهاكات، ورغم ذلك قبل الشباب التفاوض معهم بعد انقلابهم على البشير (11 أبريل 2019)، وتحسنت صورة الجيش وحتى (الدعم السريع) في تلك المرحلة، لكن لم تمر على ذلك أكثر من أسابيع حتى عاد القادة العسكريون إلى هوايتهم المفضلة وارتكبوا واحدة من أكبر المجازر دموية في تاريخ العاصمة الخرطوم وأمام الكاميرات (وهي التي أحيا السودانيون ذكراها الثالثة يوم الثالث من يونيو الماضي)، ومع ذلك رضيت القوى المدنية الدخول في شراكة مع العسكريين بحجة منع البلاد من الانهيار، وهي التي انتهت صباح يوم (25 أكتوبر 2021) حين وجد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك والقادة المدنيين أنفسهم في المعتقلات (بعد اقتحام غرف نومهم بالبنادق) وما تبعه من قتل وجرح وسجن الآلاف.

ولكل هذه التجارب العملية المريرة دور في تقوية التيار الرافض للشراكة من جديد تحت أي حجة حتى ولو كانت التحذيرات من انهيار الدولة التي تُحرك المجتمع الدولي وتُسيطر على ذهنه، ذلك أن نفس السبب كان المبرر لتوقيع اتفاق الوثيقة الدستورية (17 أغسطس 2019).

ومع اتفاقي وتفهمي للمواقف القوية والمتطرفة ضد الانقلاب، إلا أن ذلك يجب ألا يكون سبباً في إدارة العملية السياسية برمتها بغضب، وعلى القادة المدنيين الاستمرار في محاولاتهم من أجل كسب الخارج إلى صفهم جنباً إلى جنب النضال على الأرض من أجل استعادة الديمقراطية.

وأنا هنا أفترض أن هناك جهات محلية “محترفة” تتسبب في تشويش متعمد بين المدنيين والمجتمع الدولي، ويتطلب مواجهتها النفس الطويل، وإدراك أن سلوك طريق المقاطعة سيُلحق ضرراً بنضالاتهم من أجل تحقيق أهداف ثورة ديسمبر، ويُعبد الطريق أمام الجنرالات الذين يدركون جيداً أهمية الدور الدولي والإقليمي في حالة الهشاشة التي يعيشها السودان حالياً. وأمام قوى (الحرية والتغيير) و(المجتمع المدني) اختبار مهم في هذا الصدد حينما تحل على السودان مساعدة وزير الخارجية الأمريكية مولي فيي، والتي أظهرت مواقف مهادنة للعسكريين.

ومع الإقرار بأن الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي تملك مؤسسات عملاقة تُوفر لها المعلومات الصحيحة والتحليلات، إلا أنه ومع ذلك فقد وقعت هذه الدول في أخطاء متكررة في التاريخ القريب. أتذكر مثلا أنهم ضغطوا من أجل أن تُشارك المعارضة السودانية في الحوار الذي دعا إليه عمر البشير (2014) ولم تتراجع عن ذلك إلا بعد مرور زمن وصلوا بعده الى قناعة ان البشير كان “يلعب بذيله”. وقد بذل المجتمع المدني جهداً لإقناع هذه الدول بأن البشير يُمارس الخداع حتى نجحت هذه الحُجج في نهاية المطاف في إيصال وجهة نظره، وقبولها من هذه الدول.

وما يجب أن يتم تكرار شرحه وحشد الأدلة عليه الآن هو أن أعداداً كبيرة من المعتقلين لم يتم إطلاق سراحهم وأن الأجهزة العسكرية تقتحم يوميا منازل السكان وتستخدم العنف المفرط وتُصادر الحق في التجمع السلمي ولا يُمكن لأي حوار جاد أن ينعقد تحت تهديد السلاح، وكما أن من يجب أن يُشاركوا في أي مائدة للحوار هُم المتصارعون الفاعلون على السُلطة، وهؤلاء هُم طرفان: المكون العسكري وقوى الثورة التي تقود مواكب واحتجاجات مُستمرة ضد الانقلاب منذ ساعته الأولى وحتى اليوم دون كلل أو ملل، أما الآخرون الذين تُريد الآلية الثلاثية حشدهم في مائدة الحوار، فالحقيقة على الأرض تقول إنهم غير موجودين! صحيح أنه يتم من حين لآخر تجميع بعض أفراد القبائل وطلاب المدارس الدينية، لكن هذه الحشود لا تستطيع الصمود لأكثر من ساعات وسرعان ما تنصرف بعدها لأنها لا ترغب وليس لديها طموح نابع من الذات للمشاركة في سلطة تتطلب تضحيات للوصول إليها ورؤية لإدارتها (تضج الأسافير بقصص الرشاوى والأموال التي تُدفع لإنجاح هذه الحشود).

وشخصياً كُنت من المؤيدين لفكرة المشاورات التي رعتها في البداية الامم المتحدة منفردة، ولازلتُ عند قناعتي ان السودان في وضع هشّ ويُمكن ان ينجرف نحو طريق الخراب اذا لم يتم التوصل الى توافق، ولكن هذا لا يعني القبول بتسوية (مشوهة) تفتح الباب لحرب او شمولية جديدة. وما قضيناه من سنوات طويلة من عمرنا تحت ظل الدكتاتورية لا يمكن أبداً أن نسمح بتكراره.

وفي حال أصرت الآلية الثلاثية على انعقاد الحوار بهذه الكيفية “المشوهة”، فسيبدو الوضع شبيها بحوار عمر البشير الذي دعا إليه في العام 2014 (حوار الوثبة) مع وجود متغير وهو غياب البشير نفسه والذي سينوب عنه البرهان وحميدتي بعد اقتسام السلطة بينهما بما في ذلك منزل البشير نفسه بالقيادة العامة. ولن يختلف الوضع أيضا عن فوضى اعتصام القصر (والذي يُشار إليه شعبياً باسم اعتصام الموز).

ومما يجب أن يستحق الانتباه والتفكير من طرف الخارج هو أن انعقاد الحوار بالكيفية التي تُخطط لها الآلية الثلاثية “سوق عكاظ الموالين للعسكر” قد يكونُ بمثابة إطلاق رصاصة رحمة على معسكر “العقلانية” وسط القادة المدنيين المناهضين للانقلاب والدفع بهم نحو طريق الراديكالية التي لا تعرف حلاً سوى التنازل الكامل والفوري للعسكريين عن السلطة وتقديمهم إلى العدالة عن الجرائم التي ارتكبوها، وبمعنى آخر: الصراع طويل الأجل الذي لا يمكن للبلاد الهشة والمتهالكة تحمله لوقت أطول من ذلك.

شاركها على
اقرأ أيضًا
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.